للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل زواجي مقدَّر؟ وهل الطاعة والمعصية تغيران القدَر؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل قدَّر الله سبحانه لكل شخص من تكون زوجته؟ وهل للمعصية والطاعة دور في تغيير القدر؟ .

أنا أحب فتاة ذات دين وخلق، ولكن هي لا تحبني، فهل يجوز لي أن أدعو الله بأن يحببها فيَّ ويجعلها زوجتي في المستقبل؟.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

القدَر: هو تقدير الله تعالى الأشياء في القِدَم، وعلمه سبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده وعلى صفات مخصوصة، وكتابته سبحانه لذلك، ومشيئته له، ووقوعها على حسب ما قدرها، وخَلْقُه لها.

والإيمان بالقدر من أركان الإيمان التي لا يصح إيمان أحدٍ إلا به، ولا يصح الإيمان بالقدر إلا أن يؤمن المسلم بمراتب القدر الأربع وهي:

١. الإيمان بأن الله تعالى علم كل شيء جملة وتفصيلا من الأزل والقدم فلا يغيب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض.

٢. الإيمان بأن الله كتب كل ذلك في اللوح المحفوظ، قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة.

٣. الإيمان بمشيئة الله النافذة وقدرته الشاملة؛ فلا يكون في هذا الكون شيء من الخير والشر إلا بمشيئته سبحانه.

٤. الإيمان بأن جميع الكائنات مخلوقة لله فهو خالق الخلق وخالق صفاتهم وأفعالهم.

وانظر تفصيل هذا في أجوبة الأسئلة (٤٩٠٠٤) و (٣٤٧٣٢) .

وهذا التفصيل يبين لك أن الله تعالى قدَّر في الأزل من يكون أهلك، ومن تكون زوجتك، ومن يكون أبناؤك، وكل ما كان ويكون في الكون فهو بتقدير الله تعالى، قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) القمر/٤٩.

ثانياً:

لا يعني هذا أن الإنسان يكون في الدنيا بلا إرادة، كما لا يعني هذا أن لا يسعى الإنسان في أسباب سعادته وعافيته، فكل شيء جعل الله له سبباً، فمن أراد الولد فلا بدَّ له من الزواج، ومن أراد السعادة في الآخرة فلا بدَّ أن يسعى لها سعيها، وأن يأخذ في طريق الهداية، ومن أراد المال والغنى فلا بدَّ أن يسعى للكد والتعب.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّقَاءِ فَيُيَسَّرُ لِعَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ..) متفق عليه.

ولم يُطلع الله تعالى أحداً على تفصيل ما سيحصل له من خير أو شر، لذا فإن كل أحدٍ يسعى لجلب الخير لنفسه ودفع الأذى عن نفسه، ولا يكون عاقلاً من يسير في طريق سريع عكس الاتجاه ثم يقول " لن يحصل معي إلا ما كُتب لي أو عليَّ " ولا يجلس أحدٌ في بيته ثم يقول " لن يأتيني إلا ما قدِّر لي من رزق " ولا يأكل أحد طعاماً فاسداً ثم يقول " لن يصيبني إلا ما كتب الله لي أو عليَّ " وهذه الأمور لو فعلها أحدٌ وقالها لعدَّ من المجانين، وهو كذلك.

وفي خصوص الزواج فإن المسلم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حثَّه على التزوج بذات الدِّين، وهذا يقتضي منه البحث والتحري عن صاحبة الدِّين، ولا يقول عاقل إنني لن أسعى في هذا؛ لأنه لو عرض عليه امرأة مجنونة أو دميمة أو كبيرة في السن أو ذات أخلاق سيئة فإنه لن يقبل بها زوجة! ولن يدَّعي أنه سيتزوج بأول من يراها أو أول من تُعرض عليه، وهذا يؤكد ما قلناه من أنه سيعرض عن بعض النساء، ويتأمل في أخريات ويتردد في بعضهن وهكذا، ولو اختار، بعد النظر والتأمل والاستشارة والاستخارة، امرأة تناسبه فليعلم أنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فليجعل رجاءه في ربه عز وجل أن يهيئ له من أمره رشدا، وأن يقدر له أرشد الأمور بالنسبة إليه، وأحبها إلى رب العزة تبارك وتعالى.

ثم عليه، إذا وقع الأمر، وقدر له ربه عطاءً أو منعا، على ما وافق هواه أو خالفه، أن يحسن الظن بربه عز وجل، ويعلم أن الله لا تعالى لا يقضي لعبده المؤمن الصبار الشكور إلا قضاء الخير. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلا لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم (٢٩٩٩) .

وانظر جواب السؤال رقم: (١٨٠٤) .

ثالثاً:

أما بالنسبة لأثر الطاعة والمعصية على تغيير القدَر، فلتعلم أن أما ما كان في اللوح المحفوظ فإنه لن يتغير، قال النبي صلى الله عليه وسلم (رُفعت الأَقْلَام وَجَفَّت الصُّحُف) - رواه الترمذي (٢٥١٦) وصححه من حديث ابن عباس -، وأما ما في أيدي الملائكة من صحف فإن الله تعالى قد يأمر ملائكته بتغييرها لطاعة يفعلها المسلم أو معصية يرتكبها، ولا يكون في النهاية إلا ما كُتب أزلاً، ويدل على ذلك قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) الرعد/٣٩.

وقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم على القيام ببعض الطاعات التي لها أثر في زيادة عمر الإنان، كصلة الرحِم، وأخبر أن الدعاء يرد القضاء، وهذا معناه: أن الله تعالى علَم أولاً أن عبده فلان سيأتي بهذه الطاعات فقدَّر له عمراً مديداً أو بركة في الرزق، والعكس كذلك فقد يرتكب الإنسان معصية يُحرم بسببها الرزق، ويكون الله تعالى قد علَم ذلك أزلاً فقدَّره وكتبه بحسب علمه، ولم يجبر الله تعالى أحداً على طاعة ولا معصية.

وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذا في حديث واحد:

عَنْ ثَوْبَانَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لا يَزِيدُ فِي الْعُمْرِ إِلا الْبِرُّ وَلا يَرُدُّ الْقَدَرَ إِلا الدُّعَاءُ وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ) . رواه ابن ماجه (٤٠٢٢) .

قال البوصيري في " مصباح الزجاجة " (رقم ٣٣) :

سألت شيخنا أبا الفضل العراقي – رحمه الله – عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث حسن. انتهى

وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجة.

عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ) رواه البخاري (٥٦٤٠) ومسلم (٢٥٥٧) .

وروى الطبري بإسناده، عن أبي عثمان النهدي: أن عمر بن الخطاب قال وهو يطوف بالبيت ويبكي: اللهم إن كنت كتبت علي شقوة أو ذنبا فامحه فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب فاجعله سعادة ومغفرة

وكان أبو وائل شقيق بن سلمة التابعي مما يكثر أن يدعو بهؤلاء الكلمات: اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحنا واكتبنا سعداء وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب. [تفسير الطبري ٧/٣٩٨]

وانظر جواب السؤال رقم: (٤٣٠٢١) .

رابعاً:

حبُّك للفتاة ذات الخلق والدِّين يوجب عليك الحذر من أن تقع في مخالفات شرعية كمراسلتها أو محادثتها أو الخلوة بها، ولا ننصحك أن تدعو الله تعالى أن يحببها بك، بل ننصحك بالدعاء أن يرزقك الله تعالى زوجة صالحة، وإذا رأيتَ من تنطبق عليها مواصفات المرأة الصالحة فتقدَّم لها واخطبها، ولا داعي لتعيين امرأة بعينها فقد تبادلك المحبة ثم تقعان في مخالفات شرعية، وقد لا يتيسر لكما أمر الزواج، فدعاء الله تعالى بأن ييسر لك زوجة صالحة خير لك فيما نرى.

على أننا نصدقك ـ أخانا الكريم ـ القول، ونرى أن التعلق بهذه الفتاة هو مشكلة فراغ بالنسبة؛ ونعني بالفراغ هنا أنك لم تشغل نفسك بمهمات الأمور، فملأ الشيطان قلبك شغلا بما فيه المضرة عليك في نفسك ودينك، أو بما يفوت عليك مصالحك.

روى ابن الجوزي عن ابن عائشة قال: قلت لطبيب كان موصوفا بالحذق: ما العشق؟

قال شغل قلب فارغ!! [ذم الهوى ٢٩٠] .

وإلا، فقل لي بربك يا أخي، هل أنت جاد في البحث عن زوجة مناسبة، في هذه الفترة؟!

وإذا كنت جادا في ذلك البحث، فهل أنت جاد في إمضاء الزواج الآن؟!

وإذا كنت جادا في إمضاء الزواج الآن، فهل ظروفك ملائمة لذلك الجِد (!!) منك؟!!

عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ قَالَ: خَطَبْتُ امْرَأَةً، فَجَعَلْتُ أَتَخَبَّأُ لَهَا حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهَا فِي نَخْلٍ لَهَا، فَقِيلَ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟!!

فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (إِذَا أَلْقَى اللَّهُ فِي قَلْبِ امْرِئٍ خِطْبَةَ امْرَأَةٍ فَلا بَأْسَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا) رواه ابن ماجة (١٨٦٤) وصححه الألباني.

فانظر ـ يا أخي ـ كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم علق الإذن بالنظر على إرادة النكاح.

قال العلماء: وهذا مستثنى من النهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية، ولذلك إنما يسوغ حيث تدعو إليه الحاجة، ويرجو أن يتم زواجه الذي يريد.

قال ابن القطان رحمه الله: " لو كان خاطب المرأة عالما أنها لا تتزوجه، وأن وليها لا يجيبه، لم يجز له النظر، وإن كان قد خطب [يعني: وإن كان يطلب خِطبتها] ؛ لأنه إنما أبيح له النظر ليكون سببا للنكاح، فإذا كان على يقين من امتناعه، بقي النظر على أصله من المنع) [النظر في أحكام النظر ٣٩١] .

ومعلوم أن إرادة النكاح ممن لا يقدر على مؤنته، أو لا تساعده عليه ظروفه في وقته الراهن، نوع من العبث وإضاعة الزمان، وشغل القلب بما لا ينفع، بل بما يضر.

وحين تكون جادا، فاستعن بالله تعالى، واسأله التوفيق في أمرك، فإن بقيت على حالها، واستخرت ربك في شأنها، فامض في خطبتك، وإلا، فالنساء سواها كثير؛ فاظفر منهن بذات الدين؛ تربت يداك!!

نسأل الله تعالى أن يهديك لما فيه رضاه، وأن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يرزقك زوجة صالحة وذرية طيبة.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>