نصحه ولم يستجب فهل يقاطعه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[أنا شاب ملتزم، ولي أخ في الله أحبه فيه، رأيته عند إشارة المرور صدفة وقد ارتفع صوت الأغاني من سيارته، فناصحته بطريقة مباشرة دون أن أذكر له أني رأيته، فأبدى اعتذاره وتوبته، وقام - كما يقول - بإزالة الأغاني من سيارته ومن جهاز الحاسب كذلك ولله الحمد، ولكن بعد أيام أراه يشارك في بعض المنتديات بمشاركة ماجنة ويكتب اسم الأغنية، وقد عرفته بلقبه الذي يكنى به ورمزه، كما أنه في بعض الأحيان يصرح بمحادثته في الإنترنت لقريبات له لسن محارم له.
فهل لي أن أقاطعه، أو أجاريه على ظاهره، علماً بأن النصيحة يقابلها بالقبول دون أن يعمل بها، وعلما بأن ظاهره الالتزام، وقد عرفه أصحابه بذلك، إلا أني أعلم عنه ما لا يعرفون؟.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
الذي يعصي الله تعالى إما أن يكون مظهراً لمعصيته أو يكون مستتراً بها، فإن كان مظهراً لها فإنه يُهجر ـ ولو طالت المدة ـ إن كان الهجر يردعه عن معصيته، أو يحمله على التقلل منها.
وإن كان مستتراً بها وقدِّر لك أن تراها فيُنكر عليه سرّاً ويُنصح ويُستر عليه:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلما ستره الله يوم القيامة) متفق عليه.
ورأى محمد بن المنكدر رجلا واقفا مع امرأة يكلمها، فقال: (إن الله يراكما، سترنا الله وإياكما!!) .
وفي مثل هذه الحالة يشرع لك أيضا أن تهجره وحدك، إن كان ذلك الهجر يؤثر فيه، ولا يترتب عليه مفسدة أكبر؛ كأن يجاهر بالمعصية، بعدما كان مستترا بها، أو يزيد منها بعد إقلال، أو أن يفعل معصية أخرى هي أشد مما هجرته من أجله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
فمن أظهر المنكر وجب عليه الإنكار وأن يهجر ويذم على ذلك، فهذا معنى قولهم " من ألقى جلباب الحياء فلا غيبة له "، بخلاف من كان مستتراً بذنبه مستخفياً فإن هذا يُستر عليه، لكن ينصح سرّاً، ويَهجره مَن عرف حاله حتى يتوب ويَذكر أمره على وجه النصيحة.
" مجموع الفتاوى " (٢٨ / ٢٢٠) .
وبوَّب البخاري رحمه الله على حديث كعب بن مالك وقصة تخلفه عن تبوك بقوله:
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ".
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:
" قوله باب ما يجوز من الهجران لمن عصى ": أراد بهذه الترجمة بيان الهجران الجائز؛ لأن عموم النهي مخصوص بمن لم يكن لهجره سبب مشروع، فتبين هنا السبب المسوِّغ للهجر وهو لمن صدرت منه معصية، فيسوغ لمن اطَّلع عليها منه هجره عليها ليكف عنها.
" فتح الباري " (١٠ / ٤٩٧) .
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ قَرِيبًا لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ خَذَفَ قَالَ: فَنَهَاهُ، وَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْخَذْفِ، وَقَالَ: إِنَّهَا لا تَصِيدُ صَيْدًا وَلا تَنْكَأُ عَدُوًّا وَلَكِنَّهَا تَكْسِرُ السِّنَّ وَتَفْقَأُ الْعَيْنَ، قَالَ: فَعَادَ، فَقَالَ: أُحَدِّثُكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْهُ ثُمَّ تَخْذِفُ لا أُكَلِّمُكَ أَبَدًا. رواه البخاري (٥١٦٢) ومسلم (١٩٥٤) .
قال النووي – رحمه الله -:
فيه هجران أهل البدع والفسوق ومنابذي السنَّة مع العلم، وأنه يجوز هجرانه دائماً، والنهى عن الهجران فوق ثلاثة أيام إنما هو فيمن هجر لحظ نفسه ومعايش الدنيا، وأما أهل البدع ونحوهم فهجرانهم دائماً، وهذا الحديث مما يؤيده مع نظائر له، كحديث كعب بن مالك، وغيره. " شرح مسلم " (١٣ / ١٠٦) .
فالواجب عليك ـ أخي الكريم ـ تجاه صاحبك النصح والتذكير والوعظ والتخويف بالآخرة، فإن استجاب فالحمد لله ولك أجره، وإن استمر على معصيته مستتراً متخفيّاً، فإنه يستحق الهجر منك إن رأيتَ أن هجره أنفع له، فإن لم يكن هجرك نافعاً له فلا نرى لك هجره، بل نرى مداومة مصاحبتك له عسى أن ينتفع بذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم؛ فان المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله، فان كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضى هجره إلى ضعف الشر وخفيته: كان مشروعا، وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك، بل يزيد الشر، والهاجر ضعيف، بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته: لم يشرع الهجر، بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر.
والهجر لبعض الناس أنفع من التأليف، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يتألف قوماً ويهجر آخرين. " مجموع الفتاوى " (٢٨ / ٢٠٦) .
وننبهك ـ أخيرا ـ إلى أنه من الممكن أن تنصحه وتدله على الخير، من غير أن تواجهه بما فعل، وبخصوص مشاركاته في المنتديات، فمن الممكن أيضا أن تنصحه، وتكتب له مشاركة، أو ترسل له على بريده، إن أمكنك، من غير أن تعرفه بشخصك، إن كان ذلك يقلل من مجاهرته بالمعصية، وارتكابه لها.
هدانا الله وإياك لما يحبه ويرضى، وجعلنا جميعا مفاتيح للخير، مغاليق للشر.
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب