مشكلاته مع أهله سببت له اكتئابا
[السُّؤَالُ]
ـ[منذ نعومة أظفاري نشأت في حياة بائسة، فقد كان والدي متزوجاً باثنتين زوجته الأولى، وأمي، وقد كان أخي الأكبر مسيطراً سيطرة كاملة على المنزل، وكان جبَّاراً لا أحد يستطيع الكلام في وجوده أو حتى الهمس، ولا أعلم ما هو السر حتى الآن، أما أبي فقد ترك كل شيء له، حتى أمي وزوجة أبي لا يقدرون عليه ولا يستطيعون مناقشته، وعندما أصبحت في الصف الرابع أو الخامس طُلقت والدتي وعشتُ أصنافاً من العذاب والويل - والله -، قمع على أتفه الأسباب، واستعباد، وقلوب قاسية من هذا الأخ ومن زوجة أبي، وضرب حتى يخرج الدم، وأبي لا حياة لمن تنادي، ثم كبرت وتوظفت وكبر إخواني الآخرون، وما زال حتى الآن يراهم ملائكة ويراني لا شيء - تافه وحقير - وهم بدورهم متكبرون وقاطعوني، وقد واصلتهم، ولكني رأيت تعاملهم معي فقاطعتهم، حاولت التقرب منه ولكنه مصمم على عدم العدل في كل تصرفاته، والآن أعاني من هذا الظلم، وأعاني من الاكتئاب ومن ثقتي بنفسي، فما هو الحل؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
لا شك أن ما تعاني منه هو مؤلم، والظلم إذا حصل من القريب كان أشدَّ على النفس من ظلم البعيد، لكنَّ المسلم الذي يحمل اعتقاد أهل السنَّة والجماعة يعلم أن " ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه "، وهو يأخذ بأسباب السعادة، ويفعل ما أمره الله تعالى به دون تقصير، وإذا لم يقدِّر الله تعالى له الخير فيكون ما أصابه ابتلاء ليكفِّر الله تعالى به السيئات ويرفع الدرجات.
ثانياً:
والظلم الذي وقع عليك من والدك، وزوجته، وأخيك، هو مما يحز في النفس وجوده، وهو أمرٌ يدل على استيلاء الشيطان على عقول وقلوب أتباعه الذين يستجيبون لأمر الشر والسوء، ويصدون أنفسهم عن مواطن الخير والفضل.
وما كنتَ تفعله من مواصلتهم مع قطعهم لك هو الذي ينبغي لك المداومة عليه، وقد أخطأتَ في ترك مواصلتهم، والمسلم يحتسب ما يقع عليه من ظلم، ويرجو ثواب صبره عند ربه تبارك وتعالى، وإذا كان هذا الظلم من والدَين أو رحم فإنه لا يقطعهم إلا أن يؤثر قربه منهم على دينه، ولتعلم أن الله تعالى ينصرك ويؤيدك إن كنتَ واصلاً لهم وهم يقطعونك.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ، فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتَ كَمَا قُلْتَ فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ، وَلَا يَزَالُ مَعَكَ مِنْ اللَّهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ.
رواه مسلم (٢٥٥٨) .
وقد جعل الله تعالى ذلك أدبا عاما للمسلم مع الناس: أن يحلم على الجاهل، ويحسن إلى المسيء؛ قال الله تعالى:
(وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) سورة فصلت
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله في تفسيره (٥٥٨) :
" أي: لا يستوي فعل الحسنات والطاعات، لأجل رضا الله تعالى، وفعل السيئات والمعاصي، التي تسخطه ولا ترضيه. ولا يستوي الإحسان إلى الخلق، ولا الإساءة إليهم، لا في ذاتها، ولا في وصفها، ولا في جزائها: " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان "؟!!
ثم أمر بإحسان خاص، له موقع كبير، وهو: الإحسان إلى من أساء إليك فقال: " ادفع بالتي هي أحسن ": أي: فإذا أساء إليك مسيء من الخلق، خصوصا من له حق كبير عليك، كالأقارب، والأصحاب، ونحوهم، إساءة بالقول أو بالفعل، فقابله بالإحسان إليه؛ فإن قطعك فصله، وإن ظلمك فاعف عنه، وإن تكلم فيك، غائبا أو حاضرا، فلا تقابله، بل اعف عنه، وعامله بالقول اللين. وإن هجرك، وترك خطابك، فطيب له الكلام، وابذل له السلام. فإذا قابلت الإساءة بالإحسان، حصل فائدة عظيمة: " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم " أي: كأنه قريب شفيق!!
" وما يلقاها " أي: وما يوفق لهذه الخصلة الحميدة " إلا الذين صبروا " نفوسهم على ما تكره، وأجبروها على ما يحبه الله. فإن النفوس مجبولة على مقابلة المسيء بإساءته وعدم العفو عنه، فكيف بالإحسان؟ فإذا صبر الإنسان نفسه، وامتثل أمر ربه، وعرف جزيل الثواب وعلم أن مقابلته للمسيء بجنس عمله، لا تفيده شيئا، ولا تزيد العداوة إلا شدة، وأن إحسانه إليه ليس بواضع قدره، بل مَنْ تواضع لله رفعه، هان عليه الأمر، وفعل ذلك متلذذا مستحليا له.
" وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم " لكونها من خصال خواص الخلق، التي ينال بها العبد، الرفعة في الدنيا والآخرة، التي هي من أكبر خصال مكارم الأخلاق." انتهى.
قال ابن حبان البستي – رحمه الله -:
الواجب على العاقل توطين النفس على لزوم العفو عن الناس كافة، وترك الخروج لجازاة الإساءة؛ إذ لا سبب لتسكين الإساءة أحسنُ من الإحسان، ولا سبب لنماء الإساءة وتهييجها أشدُّ من الاستعمال بمثلها.
ولقد أنشدني منصور بن محمد الكريزي:
سألزمُ نفسي الصفح عن كل مذنب وإن كثرت منه إليَّ الجرائم
فما الناس إلا واحد من ثلاثةٍ شريف ومشروف ومثلٌ مقاوم
فأما الذي فوقي فأعرف فضله وأتبع فيه الحقَّ، والحقُّ لازم
وأما الذي دوني فإن قال صنْتُ عن إجابته عِرضي وإن لام لائم
وأما الذي مثلي فإن زلَّ أو هفا تفضَّلتُ إن الحلم للفضل حاكم
" روضة العقلاء ونزهة الفضلاء " (ص ١٦٦) .
ولا يعني أنك إذا واصلتَهم أنك لا تُنكر عليهم أفعالهم ولا تبيِّن لهم أخطاءهم، بل يجب عليك أن تفعل ذلك، وهذا من النصيحة التي أوجبها الله تعالى عليك، حتى يقفوا على أخطائهم، ويصلحوا ما أفسدوه، فإن رأيت تغيرهم للأفضل فهو خير عظيم قدَّمتَه لهم، وإن لم يستجيبوا لنصحك فعليك بتكرار المحاولة مع الاستعانة بالدعاء أن يصلح الله تعالى بالهم وشأنهم، ولا تقطع الصلة بهم بالكلية؛ بل أبق عليها ولو على أدنى مراتبها.
ثالثاً:
وأما ما أصابك من اكتئاب وفقدان ثقة بنفسك فمردُّه إلى ما عانيته من هموم وغموم، لكن لا ينبغي لك الاستسلام لهذا، ويجب أن تعلم أن اكتئابك هذا سيسبب لك أمراضا نفسية وعضوية إن استمررت مستسلماً له، وعليك أن تبدأ بعلاج نفسك لتواجه الحقيقة وهي أن الناس تختلف طبائعها، وأنك تجد الخير والشر عندهم، وأن غيرك يعاني أضعاف ما تعاني منه، فليس أمامك إلا أن تسلك الطرق الشرعية في انشراح الصدر لتنعم بحياة آمنة مطمئنة لا كدر فيها ولا هم ولا غم.
ويمكن أن نلخص لك ما نريد منك أن تفعله في أمور:
١. الرضا بقدر الله تعالى، والسعي في إصلاح والدك وزوجته وأخيك بالتي هي أحسن.
٢. المحافظة على ذِكر الله تعالى، ومنها الأدعية الواردة في علاج مثل هذه الأمور.
أ. قال الله تعالى: (الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) الرعد/٢٨.
ب. وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسْعُود قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ " اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجِلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي ": إِلَّا أَذْهَبَ اللَّهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَجًا، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: بَلَى يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا) .
رواه أحمد (٣٧٠٤) وصححه الشيخ الألباني في " السلسلة الصحيحة " (١٩٩) .
قال ابن القيم – رحمه الله -:
ومن أسباب شرح الصدر: دوام ذِكْره على كل حال، وفي كل موطن؛ فللذكر تأثير عجيب في انشراح الصدر، ونعيم القلب، وللغفلة تأثير عجيب في ضيقه، وحبسه، وعذابه.
" زاد المعاد " (٢ / ٢٢)
٣. إشغال الوقت بطلب العلم والدعوة إلى الله تعالى وقراءة سير الصالحين.
٤. ترك النظر المحرَّم وفضول المخالطة والأكل والنوم.
قال ابن القيم – رحمه الله -:
ومنها – أي: أسباب انشراح الصدر -: ترك فضول النظر والكلام والاستماع والمخالطة والأكل والنوم؛ فإن هذه الفضول تستحيل آلاماً وغموماً وهموماً في القلب، تحصره، وتحبسه، وتضيِّقه، ويتعذب بها، بل غالب عذاب الدنيا والآخرة منها.
" زاد المعاد " (٢ / ٢٢)
وستجد – إن شاء الله - أن ما بك من هموم وغموم وتكدر معيشة سيزول، وسيكون مكانه انشراح صدر وراحة بال.
ونسأل الله تعالى أن يرفع عنك الهموم والغموم، وأن يصلح أهلك ويهديهم لأحسن الأقوال والأفعال والأخلاق، ونسأله تعالى أن يُعظم لك الأجر، وأن يعينك على ذِكره وشكره وحُسن عبادته.
وللمزيد: انظر أجوبة الأسئلة (٢١٦٧٧) و (٤٥٨٤٧) و (٤٦٣١) .
وانظر أيضا: في قسم الكتب في موقعنا: علاج الهموم.
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب