للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

حكم اعتراف الزوجة لزوجها بماضيها السيئ وأثر إخبارها على حياتها

[السُّؤَالُ]

ـ[هذه مشكلة امرأة عاملة، تزوجت منذ بضعة أشهر، ولم تكن متمسكة بدينها في فترة الدراسة، وكانت تدرس بعيداً عن أهلها، وتعرفت على شاب غير مسلم كان يساعدها، وإنه أتى معها بعض الأفعال المحرمة دون أن تصل إلى حد ارتكاب الفاحشة، ولكنها تابت، وقطعت علاقتها به واستقامت، ولديها مشاكل مع زوجها حيث إنه كثير الشك، ولا يثق في أحد، وله تعلق بالشرك، والحسد، والسحر، وما أشبه، وأنه نادراً ما يحضر الجمعة، وأنه بدأ يشك في ماضيها، وأحضر مصحفاً، وطلب منها أن تحلف عليه، فحلفت كاذبة، ثم تابت، وأخبرته بعلاقتها السابقة، فبدأ في إذلالها، وأجبرها أن تكتب إلى أهلها بالتفاصيل، وأخذ يضيق عليها، فلا يسمح لها بالاختلاط بأهلها، ولا أقرب الأقارب، ومع ذلك تقول إنها تحبه، وهو كذلك، وتطلب النصيحة.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً:

نسأل الله تعالى أن يقبل توبتها، وأن يغفر لها ذنبها، وأن يبدل سيئاتها حسنات.

قال الله تعالى: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً. يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا. إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان/ ٦٨-٧٠.

ثانياً:

لا يجوز للزوج أن يجعل للشيطان طريقاً إلى قلبه بالشك في زوجته، وطريق الشك طريق شائك، لا يجعل صاحبه في هناءة من العيش، بل تكون حياته قائمة على القلق والاضطراب وتعظيم الأمر التافه، وهو ما يسبِّب ظلماً للآخرين، وتزكية لنفسه، وأمراضاً نفسية، وربما عضوية يعاقبه الله بها.

فما كان على الزوج أن يشك بامرأته البتة، كما لم يكن له أن يسألها عن ماضيها، فلا يخلو أحد – غالباً – من ماضٍ يود لو أنه يمحى من صحيفته ومن ذهنه ومن ذهن من يعرفه، فأن يأتي الشيطان له ليجعل زوجته تخبره بماضيها أمرٌ مستبشع مستنكر محرَّم، كيف لا يكون كذلك وقد أمر الله تعالى بالستر؟! ستر الإنسان المقصِّر على نفسه، وستره على غيره، وبسؤال الزوج فإنه يكون متسبباً في نقض السترين! .

وفي جواب السؤال رقم (٧٦٥٠) قلنا:

فليس للرجل حق في البحث عن الماضي الذي قد تابت عنه زوجته لما قدمنا، ولا ينبغي للمرأة أن تصارح زوجها بما قد حصل في الماضي وتابت منه، ولتستتر بستر الله.

انتهى

ثالثاً:

كان المرجو من الزوجة أن تبقى على يمينها عندما حلفت له أنه ليس لها ماضٍ فيه سوء؛ فليس من حقه أن يستنطقها بماضيها فضلاً أن يحلِّفها، أما وقد فعلت فإن هذا من الكذب المباح ـ إن شاء الله ـ حتى لو كان بيمين؛ دفعاً لسفاهة الزوج؛ وحفاظاً على شرفها وعرضها؛ وحفاظاً على زوجها وأولادها.

ونعجب من الزوجة الفاضلة كيف تراجعت عن يمينها وأقرَّت على نفسها بالفضيحة لماضٍ سالفٍ ستره الله عليها.

وكثير من النساء يسألن عن حكم إخبار الأزواج عن الماضي الذي كانت اقترفت فيه آثاماً وتابت منه، ولا ينبغي أن يشك في أن الحكم هو المنع الجازم من الإخبار؛ حفاظاً على ستر الله تعالى عليها؛ ومنعاً من فضيحتها؛ وحفاظاً على شرفها وعرضها من أن يناله أحد بسوء؛ وإبقاء للحياة الزوجية دون وجود ما يكدرها.

عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (اجْتَنِبُوا هذهِ القَاذُوراتِ التي نَهَى الله عز وجل عَنْهَا، فَمَنْ أَلَمَّ بِشَيءٍ منها: فَلْيَسْتتِر بِسِتْرِ الله عز وجل وليتب إلى الله؛ فإنَه مَن يُبْدِ لنَا صَفْحَتَه نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ الله) .

رواه مالك (١٥٦٢) مرسلاً، والحاكم (٤ / ٤٢٥) ، والبيهقي (٨ / ٣٣٠) بإسناد متصل. والحديث: صححه الحاكم وابن السكن وابن الملقن، وحسَّنه العراقي، والألباني.

انظر: " التلخيص الحبير " (٤ / ٥٧) ، " خلاصة البدر المنير " لابن الملقِّن (٢ / ٣٠٣) ، " السلسلة الصحيحة " (٦٦٣) .

والقاذورة: هي الفعل القبيح والقول السيئ مما نهى الله عنه.

قال ابن عبد البرّ:

في هذا الحديث دليل على أنّ السّتر واجب على المسلم في خاصّة نفسه إذا أتى فاحشةً وواجب ذلك أيضاً في غيره. " التّمهيد " (٥ / ٣٣٧) .

وعَنْ أَبَي هُرَيْرَةَ قَالَ:ُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلا الْمُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنْ الْمُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلا ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَيَقُولَ يَا فُلانُ عَمِلْتُ الْبَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) .

رواه البخاري (٥٧٢١) ومسلم (٢٩٩٠) .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:

أما المؤمن العاصي فإنه إذا ابتلي بالمعصية فإن الأفضل ألا يجاهر بها وألا يخبر بها أحداً، وأن يستتر بستر الله ويتوب إلى الله، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين) ، المجاهرون هم الذين يعملون السيئات ثم يصبحون يتحدثون للناس بما صنعوا، فمن أصاب شيئاً من هذه القاذورات: فليستتر بستر الله، وليتب إلى الله عز وجل، ولا يخبر بها أحداً. " لقاءات الباب المفتوح " (١٣ / السؤال رقم ١٣) .

وقال الحافظ ابن حجر – رحمه الله -:

ويؤخذ من قضيته - أي: ماعز عندما أقرَّ بالزنى - أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى ويستر نفسه ولا يذكر ذلك لأحدٍ

. . . وبهذا جزم الشافعي رضي الله عنه فقال: أُحبُّ لمن أصاب ذنباً فستره الله عليه أن يستره على نفسه ويتوب اهـ. " فتح الباري " (١٢ / ١٢٤، ١٢٥) .

وفي " الموسوعة الفقهية " (٣ / ١٨١، ١٨٢) .

وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المرء إذا وقع منه ما يعاب عليه يندب له السّتر على نفسه، فلا يُعْلِم أحداً، حتّى القاضي، بفاحشته لإقامة الحدّ أو التّعزير عليه؛ لما رواه البخاريّ وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلّ أمّتي معافًى إلاّ المجاهرين ... ) ؛ وقوله صلى الله عليه وسلم (من أصاب من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله ... ) .

وقال أبو بكرٍ الصّدّيق: " لو أخذت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو أخذت سارقاً لأحببت أن يستره الله "، وأنّ الصّحابة أبا بكرٍ وعمر وعليّاً وعمّار بن ياسرٍ وأبا هريرة وأبا الدّرداء والحسن بن عليٍّ وغيرهم قد أثر عنهم السّتر على معترفٍ بالمعصية، أو تلقينه الرّجوع من إقراره بها، ستراً عليه، وستر معترف المعصية على نفسه أولى من ستر غيره عليه. والجهر بالمعصية عن جهلٍ، ليس كالجهر بالمعصية تبجّحاً، قال ابن حجرٍ: فإنّ من قصد إظهار المعصية والمجاهرة بها أغضب ربّه، وقال الخطيب الشّربينيّ: وأمّا التّحدّث بها تفكّهاً فحرامٌ قطعاً.انتهى

وقد ذكر العلماء فوائد للاستتار بالمعصية، ففي " الموسوعة الفقهية " (٣ / ١٨٢) :

يترتّب على الاستتار بالمعصية:

أ. عدم إقامة العقوبة الدّنيويّة؛ لأنّ العقوبات لا تجب إلاّ بعد إثباتها، فإذا استتر بها ولم يعلنها ولم يقرّ بها ولم ينله أيّ طريقٍ من طرق الإثبات، فلا عقوبة.

ب. عدم شيوع الفاحشة، قال الله تعالى: (إنّ الّذين يحبّون أن تشيع الفاحشة في الّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدّنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون) .

ج. من ارتكب معصيةً فاستتر بها فهو أقرب إلى أن يتوب منها، فإن تاب سقطت عنه المؤاخذة، فإن كانت المعصية تتعلّق بحقّ الله تعالى فإنّ التّوبة تسقط المؤاخذة؛ لأنّ الله أكرم الأكرمين، ورحمته سبقت غضبه، فلذلك إذا ستره في الدّنيا لم يفضحه في الآخرة، وإن كانت تتعلّق بحقٍّ من حقوق العباد، كقتلٍ وقذفٍ ونحو ذلك، فإنّ من شروط التّوبة فيها أداء هذه الحقوق لأصحابها، أو عفو أصحابها عنها، ولذلك وجب على من استتر بالمعصية المتعلّقة بحقّ آدميٍّ أن يؤدّي هذا الحقّ لصاحبه. انتهى

وقد ذكرنا في أول الجواب فوائد أخرى تتعلق بالاستتار بمعاصي الزوجة قبل زواجها، ولا نعلم عن أحدٍ سمع من زوجته ماضياً سيئاً وازداد حبه لها، ولا ازدادت ثقته بها، حتى ولو كانت توبة نصوحا، واستقام حالها فيما بعد؛ بل على العكس، رأينا وسمعنا الشكوك المتزايدة، والترقب لأفعالها، ومنعها مما أباحه الله لها، وآخر ذلك تطليقها لاستحالة الحياة بينهما إما من جهته، أو من جهتها، أو من كلا الجهتين.

ثالثاً:

لذا فإننا نرى في حال الزوجة المسئول عنها:

١. إن أمكن فلتكذِّب نفسها مرة أخرى أمام زوجها، وأن تخبره أن هذا كان بسبب ضغطه عليها، وأنه ليس لما قالته أصل من الصحة.

٢. أن لا تخبر أهلها كما هي رغبة الزوج، وإلا فإنها ستقع في المحذور نفسه.

٣. وإذا لم يقتنع فلتخبر أهلها بذلك إن أوصل لهم الزوج ما قالته.

٤. أن تصبر على حياتها الجديدة معه؛ لتثبت له أنه لا علاقة للماضي بحاضرها، وتحاول تحمل قراراته وأفعاله حتى يهديه الله، ولتدع ربها بأن يهديه ويصلح باله.

٥. وإذا استمرت شكوكه وسوء أفعاله ولم تستطع الصبر: فليس لها إلا فراقه، وإلا صارت حياته جحيماً لا يطاق، ولا نظنه سيطيل المدة حتى يبادر هو بتطليقها.

٦. على أننا، وبغض النظر عن هذا المشكلة، وما ترتب عليها، لا ننصح هذه الزوجة بالبقاء مع زوج حاله بالسوء الذي وصفته: من التعلق بالشرك والسحر، والتفريط في الصلاة، حتى صلاة الجمعة، مع ما ذكرت من شكوكه وظنونه، وسوء معاملته، فمثل هذا لا ننصح بالحرص على الحياة معه، لأن مثل هذا الحياة لن تزيدها عن طريق الإيمان والهدى إلا بعدا!!

ولتحتسب أمرها عند ربها، ولتدع ربها تعالى أن يهوِّن عليها مصيبتها، وأن يبدلها خيراً منه.

وللاستزادة يرجى النظر في أجوبة الأسئلة: (٢٧١١٣) و (٩٥٦٢) .

والله أعلم

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>