للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يتزوج مطلقة، رغم معارضة والديه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[أنا رجل ملتزم دينيا، وأريد أن أتزوج، وقد تعرفت على سيدة مطلقة، وهي أكبر مني بعدة سنوات، وصاحبة دين ولقد أردت دائما أن أظفر بذات الدين، والحمد لله وجدتها هي ذات الدين والجمال والخلق والنسب والمال كما دلنا الرسول على مواصفات الزوجة الصالحة؛ لقد أحببتها حبا جما لصفاتها الحسنة وعقلها المتزن , وتلك الصفات لا أجدها أبدا فيمن في سني!! عرضت الموضوع على أهلي فرفضوا بشدة، وأنا أعلم أني في حال عدم زواجي بها لن تستقيم حياتي أبدا، وسأكره والدي كرها لم يره بشر من قبل، ولكنى سأعاملهما بالحسنى ابتغاء مرضاة الله فقط. فهل يجوز لي الزواج بغير رضا والدي؟ وما يعاقب والدي لأنهما منعا حلال الله لأسباب دنيويه، وليس لأسباب دينية؟ وفى حال رفض أهلها أيضا؛ بم تنصحونهم؟ وأريد أن أعف نفسي بالزواج، حيث إنى أستطيع الباءة، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله:

فإنك أيها الأخ الكريم قد أبديت شدة احتياجك إلى هذه النصيحة، فنسأل الله تعالى أن يوفقك للانتفاع بها، على قدر ما أبديت من حاجة إليها، وألا يكلك إلى نفسك التي سولت لك أن والديك غير ناصحين لك، وأنك قد تكرههما كرها لم يره بشر إذا حالا بينك وبين هواك؟!!

أيها الأخ الكريم؛ أتريد أن نتحدث معك من خلال عقلك الكبير الذي يسبق سنك، ولا يتفهمه والداك؟

أم تريد منا أن نتحدث معك من خلال عاطفتك التي طغت على كل شيء عندك، حتى على نظرتك إلى أبويك؟

أما العقل الكبير، فلن نقول لك هنا: كم من أناس أهلكتهم عقولهم، وأرداهم إعجابهم برأيهم..، لن نحتاج إلى أن نقول لك شيئا من ذلك؛ بل نقول لك، وهذا لا بد أن تعلمه من نفسك، كما يعلمه كل عاقل، وتشهد به التجارب: لقد خسرت قسطا كبيرا من عقلك هذا (الكبير) من جراء ما أنت فيه، وصرت تفكر بعاطفتك الجياشة، التي ملكت عليك حياتك!!

فإن كابرت في تلك الحقيقة، نعيذك بالله من هذا، فاستمع الآن، وأنت المتديِّن جدا، على حد قولك، إلى قول رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للنساء:

(مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ) رواه البخاري (٣٠٤) ومسلم (٨٠) .

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " قَوْله: (أَذْهَبُ) أَيْ أَشَدّ إِذْهَابًا , وَاللُّبّ أَخَصّ مِنْ الْعَقْل وَهُوَ الْخَالِص مِنْهُ , (الْحَازِم) الضَّابِط لِأَمْرِهِ , وَهَذِهِ مُبَالَغَة فِي وَصْفهنَّ بِذَلِكَ ; لِأَنَّ الضَّابِط لِأَمْرِهِ إِذَا كَانَ يَنْقَاد لَهُنَّ فَغَيْر الضَّابِط أَوْلَى " انتهى.

وصدق الأعشى حين قال:

وَهُنَّ شَرُّ غَالِبٍ لِمَنْ غَلَبْ!!

فنرجو منك أن تفتح لما تقرأ الآن قلبك عقلك، واصدق الله وانصح لنفسك: كيف تعرفت على هذه المرأة؟ وكيف وصل بك الحال إلى أن (أحببتها حبا جما) ؟

اعلم أنك لو تعرفت عليها تعرفا أدى بك إلى هذه الحال في مجلس تحفيظ للقرآن الكريم، لكان هذا المجلس آثما ينهى عن مثله، فكيف بغيره من المجالس والملتقيات؟

إنك ما أحببتها حبا جما إلا بعد نظر محرم، استماع محرم، واتباع لخطوات الشيطان حتى جعلك ترى هذه المرأة على تلك الصورة التي ربما لم تكن عليها في واقع الأمر؛ فألقى في قلبك أن ليس في الناس مثلها، حتى آل بك الأمر إلى أن ترى والديك يحولان بينك وبين سعادتك، وإلى أن تكرههما كرها لم يره بشر، يا أيها المتدين العاقل؟!!

وحتى رحت تسأل: " وما عقاب والدي عند الله لأنهما منعا حلال الله لأسباب دنيويه.. "

أتريد أن تتشفى بما يكون لهما من العقاب عند الله، لتبرد نار الشوق والحرمان في صدرك؟!! أم أنك مشفق عليهما من عقاب الله وعذابه؟!!

على أية حال، والله ما نعلم لهما عقابا عند الله، ما داما يجتهدان في النصح لك، والسعي فيما يصلحك، ويصلح لك؛ هذا إن أخطآ، فكيف إن أصابا في ذلك، وإنا لنسأل الله ألا يحرمهما من الأجر على كل حال؛ أجر تربيتك، والصبر عليك، والنصح لك، والاهتمام بأمرك ...

ولو سألت عن الاختيار بين الأمرين: أن تبدأ حياتك بطريقة تغضب والديك، وتسبب القطيعة، أو ترضيهما على حساب عاطفتك، واختيارك لنفسك؟!!

لقلنا: السؤال خطأ، فرضا الوالدين لا يعدله شيء، فيكف يوزن بمثل ذلك؟!!

وإن أردت نصيحتنا، فلا تقدم على شيء لا يرضاه والداك، وإن كنت تريد صاحبة الدين، فصاحبات الدين سواها كثير، فاختر منهن ما تناسبك، وترضي والديك، لتجمع بين الحسنيين، وليست المرأة التي تفوتك هي نهاية العالم، كما يتصور العاشقون، بل أمر الزواج أيسر من ذلك، إنما هو المودة والرحمة والسكن، وهذا من الممكن تحصيله ـ بسهولة ـ بين الأشخاص الأسوياء!!

وهذا كله نقوله لك، إن كنت ترضى منا أن نخاطبك من خلال عقلك الكبير، فاحذر أن تكون ما أنت فيه جذوة من الشوق، لا تلبث أن تخبو عند مصادمة الحياة الواقعية.

فأما إن أبيت ذلك، ورأيت أنك لن تستقيم حياتك، وسوف تكره ... ، معاذ الله، فلنخاطبك الآن بحكم عاطفتك التي أسكرتك، وغطت على عقلك، حتى لم تقدر لما تقوله وزنا؛ فالهوى والعشق حالة مضية، كما قال ابن القيم رحمه الله:

" فصل: في ذكر حقيقة العشق وأوصافه وكلام الناس فيه:

فالذي عليه الأطباء قاطبة أنه مرض وسواسي، شبيه بالماليخوليا، يجلبه المرء إلى نفسه بتسليط فكره على استحسان بعض الصور والشمائل، وسببه النفساني الاستحسان والفكر " انتهى من روضة المحبين (١٣٧) .

فلتتزوج هذه المرأة التي تعلقت بها، وليس هناك ما يمنع من ذلك، حتى وإن لم تتقبل أعراف الناس ذلك بسهولة، لكننا ننصحك أن تستشير في ذلك من تثق بعقله ودينه ممن يعرفك ويعرفها، أو على الأقل أن تتحرى عن دينها، من طرف محايد، لا يتأثر رأيه بعاطفة جياشة، ولا بموقف رافض لفكرة زواجك بها من الأساس.

فإن صح لك أنها صاحبة الدين التي تبحث عنها لتعف نفسك، فلا يعنينا الآن أن يكون ما قالته عن زوجها صحيحا، لأن مثل هذا الأمر لا يجوز الخوض فيه , ولا قبول رأيها فيها، لأن بينهما خصومة، وليس من اللازم للطلاق أن تقع تلك الجرائم، وليس من اللازم أيضا للزواج بالمطلقة أن تكون ضحية لمثل ذلك، فقد يكون هو زوجا صالحا خيرا، وتكون هي كذلك، لكن الحياة لم تستقم بينهما!!

إننا معك في أن نظرة المجتمعات للمطلقات، بل وللأرامل أيضا، هي نظرة جاهلية في المقام الأول، حتى لتكاد تحكم على الواحدة منهن بالإعدام من الحياة الاجتماعية السوية، وأخذ فرصة أخرى للعيش الكريم.

وفي هذه الحال ننصح والديك بالتوقف عن معارضة زواجة، مراعاة لما وصل إليه أمرك، ما دام أنه لا يوجد ما يطعن في دين المرأة ولا خلقها، وليس من حقهما حينئذ ـ وقد بذلا نصحهما ـ أن يكرهاك على أمر لا تريده، أو يمنعاك مما تعلقت به نفسك.

وانظر جوابي السؤالين رقم (٣٠٧٩٦) ورقم (٢٠١٥٢) .

لكن يبقى موافقة أهلها هي على ذلك، فهذا ليس له حل عندنا، بل لا بد من موافقة أهلها، ولا يحل لك أن تنكحها من غير إذن وليها، ولو قدر أن هذا يحل، أفيعقل أن تعيشا في منعزل عن أهلك وأهلها، وأن تعادي أنت أهلك لأجلها، وتعادي هي أهلها لأجلك؟!!

هذا ـ فقط ـ في قصص العشاق، وأفلام العواطف الجياشة، وأما الحياة الواقعية، فينبغي أن تكون لها موازينها وضوابطها.

وفقنا الله وإياك لما يحب ويرضى، وألهمنا رشدنا، ووقانا شر أنفسنا.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>