تفسير قوله تعالى (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ)
[السُّؤَالُ]
ـ[ما معنى قوله تعالى: (وَلَهُنَّ مِثلُ الَّذِي عَلَيهِنَّ بِالمَعرُوفِ) ، أرجو الإجابة بالتفصيل إن أمكنكم ذلك.]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد الله
أولا:
يقول الله تعالى:
(وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوَءٍ، وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً، وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَاللهُ عَزِيزٌ حَكُيمٌ) البقرة/٢٢٨
في هذه الآية بيان لعدة المطلقة المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء (أي يأتيها الحيض وليست من ذوات الحمل) ، فتتربص وتقعد عدتها ثلاثة قروء، أي حيضات أو أطهار، على خلاف بين أهل العلم، ولما كانت مستأمنة على أمر حيضها وطهارتها وانقضاء عدتها، حذرها الله تعالى من محاولة كتم ذلك أو تحريفه رغبة في تطويل العدة أو تقصيرها، فقال سبحانه وتعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ)
ثم أعطى الله تعالى الزوج حق إرجاع زوجته أثناء العدة إن لم تكن قد بانت، فقال سبحانه:
(وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُواْ إِصْلَاحاً)
هذا تفسير موجز لسياق الآية السابقة، كان لا بد من بيانه، حتى يفهم السياق كاملا.
ثانيا:
بعد ذلك قرر سبحانه وتعالى قاعدة عظيمة من قواعد الحياة الزوجية، وتعتبر أساسا من أسس التعامل بين الزوجين، ومن الأركان العظيمة في قيام الأسر على العدل والرحمة.
فقال سبحانه وتعالى: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ)
يقول ابن كثير رحمه الله "تفسير القرآن العظيم" (١/٣٦٣) :
" أي: ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف.
كما ثبت في صحيح مسلم [١٢١٨] عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: (فَاتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُم أَخَذتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ، وَاستَحلَلتُم فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكم عَلَيهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُم أَحَدًا تَكرَهُونَهُ، فَإِن فَعَلنَ ذَلِكَ فَاضرِبُوهُنَّ ضَربًا غَيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ رِزقُهُنَّ وَكِسوَتُهُنَّ بِالمَعرُوفِ)
وفي حديث بهز بن حكيم عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال:
يا رسول الله! ما حق زوجة أحدنا؟
قال: (أَن تُطعِمَهَا إِذَا طَعِمتَ، وَتَكسُوَهَا إِذَا اكتَسَيتَ، وَلا تَضرِبِ الوَجهَ، وَلا تُقَبِّح، وَلا تَهجُر إِلا فِي البَيتِ) [٢١٤٢، وصححه الألباني] .
وقال وكيع عن بشير بن سليمان عن عكرمة عن ابن عباس قال:
(إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة؛ لأن الله يقول (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ورواه ابن جرير وابن أبي حاتم " انتهى.
ثالثا:
هذا هو المعنى العام للآية، أن للنساء من الحقوق مثل ما للرجال عليهن من الحقوق، ولكن ما معنى هذه المثلية (وَلَهُنَّ مِثلُ) ، هل تعني التماثل التام بين الأزواج في الحقوق؟
يقول العلامة الطاهر ابن عاشور في "التحرير والتنوير" (١/٦٤٢) :
" والمثل أصله النظير والمشابه: وقد يكون الشيء مثلا لشيء في جميع صفاته، وقد يكون مثلا له في بعض صفاته، وهي وجه الشبه.
وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق: أجناسا أو أنواعا أو أشخاصا؛ لأن مقتضى الخلقة، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل، ومقتضى الشريعة، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة.
فتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تُبَيِّنُهُ تفاصيل الشريعة:
فلا يُتَوَهَّم أنه إذا وجب على المرأة أن تَقُمَّ – أي تنظف - بيت زوجها وأن تجهز طعامه أنه يجب عليه مثل ذلك، كما لا يُتَوَهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها، بل كما تقم بيته وتجهز طعامه، يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه، وعلى هذا القياس " انتهى.
رابعا:
بناء على ما ذكرناه في معنى المثلية، فالحقوق والوجبات التي على الزوجين تنقسم إلى قسمين:
١- حقوق وواجبات يتساوى فيها كل من الزوجين تساويا تاما: مثل إحسان المعاشرة، وقصر الطرف عن غير ما أحل الله لهما، والمماثلة في وجوب الرعاية (الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها) ، والتشاور في الرضاع، ونحو ذلك.
٢- وحقوق وواجبات تكون بين الزوجين على وجه المقابلة، كل بحسب ما قضاه الله عليه بمقتضى الفطرة والخلقة والشرع والحكمة، ومرجع ذلك إلى الشريعة وتفاصيلها، كما تقرره السنة المطهرة، وبحسب أنظار المجتهدين.
ويدل على هذا التقسيم قوله تعالى في الآية (وَلِلرِّجَالِ عَلَيهِنَّ دَرَجَةٌ)
يقول الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله، في "التحرير والتنوير" (١/٦٤٣) :
" وفي هذا الاهتمام مقصدان:
أحدهما: دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق، توهما من قوله آنفا (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) .
وثانيهما: تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص؛ لإبطال إيثارهم المطلق الذي كان متَّبَعا في الجاهلية.
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم:
من الإذن بتعدد الزوجة للرجل دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر.
ومن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة والمراجعة في العدة كذلك، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل.
وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شئون المنزل؛ لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعا عند الخلاف، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة؛ ولأنه مظنة الصواب غالبا، ولذلك إذا لم يمكن التراجع واشتد بين الزوجين النزاع لزم تدخل القضاء في شأنهما، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية (وإن خفتم شقاق بينهما) " انتهى.
وللاطلاع على تفاصيل هذه الحقوق والوجبات، انظر سؤال رقم (١٠٦٨٠) فستجد فيه تفصيلا مفيدا إن شاء الله.
خامسا:
المرجع في تحديد هذه الحقوق والواجبات هو (المعروف) كما ذكرت الآية، وفي هذه الكلمة دلالات عظيمة، وإشارات إلى أمور كثيرة:
قال الشيخ ابن سعدي رحمه الله: " وللنساء على بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لأزواجهن من الحقوق اللازمة والمستحبة.
ومرجع الحقوق بين الزوجين ويرجع إلى المعروف وهو: العادة الجارية في ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله، ويختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة والأحوال والأشخاص والعوائد.
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة والمعاشرة والمسكن وكذلك الوطء - الكل يرجع إلى المعروف فهذا موجب العقد المطلق، وأما مع الشرط فعلى شرطهما، إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " انتهى.
ويقول ابن عاشور (١/٦٤٣) : " وقوله (بالمعروف) الباء للملابسة، والمراد به: ما تعرفه العقول السالمة المجردة من الانحياز إلى الأهواء أو العادات أو التعاليم الضالة، وذلك هو الحسن، وهو ما جاء به الشرع نصا أو قياسا أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة التي ليس في الشرع ما يعارضها، والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر.
أي: وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابسا ذلك دائما للوجه غير المنكر شرعا وعقلا، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة، وهي مجال لأنظار المجتهدين في مختلف العصور والأقطار.." انتهى.
سادسا:
دين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة، وكيف لا وهي شقيقة الرجل، والمربية الأولى في المجتمع، فلذلك شرع من قواعد العدالة ما لم يكن معروفا على وجه الأرض في شريعة ولا في قانون، فسبق إليه الإسلام الحنيف، وجاء بإصلاح حال المرأة ورفع شأنها؛ وارتقى بها من متاع يرثه الرجال، كما يرثون سائر المال والمتاع، فجعلهن شقائق الرجال، لهن مثل الذي عليهن من الحقوق والواجبات، لا يضيع لهن عمل ولا سعي، ودروهن في النهوض بالأمة، عامة، وببيتها خاصة لا يقل عن دور الرجل بحال!!
والله أعلم.
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب