أب يجاهر بفجوره أمام أسرته ولا ينفق عليهم، فكيف يتصرفون معه؟
[السُّؤَالُ]
ـ[ما حكم الدين في أب له من الأولاد اثنان من سن ١٥ - ١٨، ولا يصرف عليهم، ولا على منزله منذ أكثر من عشر سنوات؛ حيث إن الأم هي المتكفلة بهم، رغم أنه يعمل، ويعيش معهم في نفس المنزل، وقد أفسد في ابنه الصغير ١٥ سنة ما لا يمكن إصلاحه، ويقيم علاقات غير شرعية مع سيدات، ووصل به الأمر إلى إرسال ابنه الصغير لهم بالنقود، ومحادثتهن أمام أبنائه على الهاتف، وحيث إنه حاولت أخواته، والكثير من الأقارب محادثته، لكنه لا يرضي أن يسمع لأي شخص، كبير، أو صغير، فما حكم المعاملة بينه وبين أبنائه، وزوجته؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أساء هذا الأب لنفسه حين فرَّط في الأمانة التي أوكل الله تعالى له حفظها، ورعايتها، والعناية بها، فزوجته وأولاده من رعيته التي سيسأله الله تعالى عنها، حفظها، أم أضاعها، والويل له – ولغيره ممن هو مثله – إن لم يتدارك نفسه، ويرجع إلى دينه، ويعتني بهذه الأمانة لينجو يوم القيامة من إثم التضييع، والتفريط.
فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ... ) رواه البخاري (٨٥٣) ومسلم (١٨٢٩) .
وعن مَعْقِلِ بْنِ يسار المُزنيِّ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: (مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْتَرعِيهِ اللهُ رَعِيَّة يَموتُ يَوْمَ يَمُوتُ وهو غَاشٌّ لِرَعِيَّتِهِ إِلا حَرَّمَ اللهُ عليه الجَنَّةَ) وفي رواية: (فَلَمْ يَحُطْها بِنَصِيحَةٍ إِلا لَمْ يَجِدْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ) رواه البخاري (٦٧٣١) ومسلم (١٤٢) .
ثم إن ذلك الأب لم يكتف بالإهمال في الإنفاق على أسرته – وهو أمر أوجبه الله عليه – بل إنه جعل نفقته تلك على المحرمات من شهواته الدنيَّة، فبدلاً من إنفاقها على زوجته التي أحلها الله له، وأوجب نفقتها عليه: جعل تلك النفقة في النساء الساقطات، وبدلاً من أن يضع المال في نفقة أبنائه: جعله في الفواحش، والمحرمات.
ثانياً:
الواجب على أسرة ذلك الأب بذل الوسع في نصحه، ووعظه، وعدم تركه فريسة للشيطان، وأن يصحب ذلك تلطف في الأسلوب، ولين في الكلام، وها هو إبراهيم عليه السلام يضرب لنا أروع الأمثلة في خطاب الابن الصالح مع الأب الكافر الفظ الغليظ، فاستمع لإبراهيم عليه السلام يقول لأبيه: (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنْ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيّاً. يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدْ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيّاً. يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنْ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً) مريم/ ٤٣ - ٤٥، واستمع لرد ذلك الوالد الفظ كيف كان، (قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) مريم/ ٤٦، فماذا كان رد الابن الصالح على هذه الغلظة، وذلك التهديد؟ (قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً) مريم/ ٤٧.
وإننا لنرجو أن يكون استعمال الأسلوب الحسن نافعاً مع ذلك الأب، مع كثرة الوعظ، والتذكير له؛ لأنه يعيش في غفلة مهلكة، ولا يمكن لمثله أن يكون سعيداً في قلبه، فلعله يأتيه وقت يجد لكلامكم أثراً طيِّباً في تغيير حاله للأحسن.
ولا يجوز لأبنائه وزوجته أن يطيعوه فيما حرَّم الله تعالى، وعليهم بذل الوسع في القضاء على كل طريق يصل من خلالها لارتكاب المحرمات، وما لا يستطيعونه من ذلك: فلا إثم عليهم فيه وهم غير مكلفين إلا بما في وسعهم.
وإذا لم يُجْدِ النصح معه نفعاً، وكان له تأثير سيء على أبنائه، ويُخشى من تعدي السوء إلى أفراد أسرته: فالذي ننصح به هو الانفصال عنه بالكلية ـ إن أمكن ـ، وخاصة أنه لا ينفق على أسرته، فليس هناك حاجة للبقاء معه إذا انغلقت طرق إصلاحه، وأوصدت أبواب هدايته، بل لا يصدر منه إلا الشر المتعدي لتلك الأسرة.
قال ابن مفلح الحنبلي رحمه الله:
قال الإمام أحمد: يأمر أبويه بالمعروف، وينهاهما عن المنكر.
وقال أيضاً: إذا رأى أباه على أمر يكرهه: يعلِّمه بغير عنف، ولا إساءة، ولا يغلظ له في الكلام، وإلا تركه، وليس الأب كالأجنبي.
وقال أيضاً: إذا كان أبواه يبيعان الخمر: لم يأكل من طعامهم، وخرج عنهم.
وقال أيضاً: إذا كان له أبوان لهما كرم يعصران عنبه ويجعلانه خمراً يسقونه: يأمرهم، وينهاهم، فإن لم يقبلوا: خرج من عندهم، ولا يأوي معهم.
"الآداب الشرعية" (١/٤٧٦) .
نسأل الله أن يهدي والدهم للحق، وأن يجمع بينه وبين أسرته على خير.
وانظر – لمزيد فائدة – أجوبة الأسئلة: (١٢٠٠٧٠) و (١٠٤٩٧٦) و (٩٥٥٨٨) و (٢٧٢٨١) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب