للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تحب زوجها حبّاً جنونيّاً وتطلب الحل

[السُّؤَالُ]

ـ[أحب زوجي حبّاً جنونيّاً، وهو راضٍ عني كل الرضا، وعندما سافر للعمل في انتظار أن أصل إليه: أصبحت أشتاق إليه، ولا أرتاح حتى يكلمني، رغم أنني أقوم بواجباتي الدينية؛ أحس بنقص في عدم وجوده، فبماذا تنصحوني، إخواني في الله، للصبر حتى اللقاء؟ . جزاكم الله خيراً.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

من الرائع أن نرى بيوت المسلمين ينتشر فيها الحب والمودة والألفة، وإذا رأينا ذلك تحديداً بين الزوجين كنّاً سعداء بذلك؛ لأن هذا الحب والمودة سيكون له الأثر الطيب على أفراد الأسرة، ومن آيات الله العظيمة أن خلق المرأة من الرجل، ومن حكمة خلق المرأة أن تكون سكناً للرجل، وقد ذكر الله تعالى ذلك في آدم وحواء، وفي عموم الخلق، قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) الأعراف/من الآية١٨٩، وهذا في آدم وحواء، وفي عموم الخلق: قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا) الروم/من الآية٢١، وجعل الله تعالى بين الزوجين مودة ورحمة، فقال – في تتمة آية الروم -: (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) الروم/من الآية٢١.

قال الشنقيطي – رحمه الله -:

قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا} الآية.

ذكر في هذه الآية الكريمة أنه خلق حواء من آدم ليسكن إليها، أي: ليألفها ويطمئن بها، وبين في موضع آخر أنه جعل أزواج ذريته كذلك، وهو قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: ٢١] .

" أضواء البيان " (٢ / ٣٠٤، ٣٠٥) .

وقال ابن كثير – رحمه الله -:

فلا ألفة بين رُوحين أعظم مما بين الزوجين.

" تفسير ابن كثير " (٣ / ٥٢٥) .

ولكن لا نريد الحب أن يكون " جنونيّاً "! ـ كما يقول الناس ـ؛ بل متعقلاً يضع الأمور مواضعها؛ كما روى زيد بن أسلم عن أبيه قال: قال لي عمر بن الخطاب: " يا أسلم! لا يكن حبك كَلَفا، ولا يكن بغضك تلفا!!

قلت: وكيف ذلك؟

قال: إذا أحببت فلا تَكْلف كما يكلف الصبي بالشيء يحبه، وإذا أبغضت فلا تبغض بغضا تحب أن يتلف صاحبك ويهلك ".

رواه عبد الرزاق في المصنف (٢٠٢٦٩) ، وإسناده صحيح.

وإنما نصح الخليفة الراشد بذلك لأن الكَلَف في الحب (الحب الجنوني) له آثاره السيئة على المحِب وعلى المحَب، فأما أثره على المحِب فهو:

أ. انشغال فكره بحبيبه، مما يسبب له قلقاً وتوتراً، فيضيع مع هذا الانشغال الأوقات، ويكون لآثاره الأمراض النفسية والبدنية.

ب. ومن آثار الحب الجنوني أنه يجعل هذا المحِب يتغاضى عن تقصير حبيبه في الواجبات، ويجعله يتغاضى عن فعله للمحرمات، بل وإذا طَلب منه حبيبه المشاركة فيها: فإن حبَّه الجنوني سيدفعه للمشاركة.

ج. ومن الآثار السيئة لهذا الحب أنه يستولي على مجامع قلبه، بحيث يزاحم محبة الله ورسوله التي هي مدار نجاته؛ فضلا عن محبة من سوى ذلك من الأهل والولد!!

د. ومن آثاره السيئة أن هذا المحِب بجنون لا يستطيع تحمل صدمة غياب حبيبه، ولا مرضه، فضلاً عن موته!

ومن آثار الحب الجنوني السيئة على المحَب:

أ. أنه قد يصيبه التوتر بسبب إلحاح المحب على رؤيته والجلوس معه، وهذا قد يؤدي به إلى الإخلال بوظيفته، أو التقصير في المهمات التي ينبغي أن ينصرف قلبه وعزمه إليها؛ من علم نافع أو عمل صالح.

ب. ومن آثاره السيئة عليه: أنه لن يجد هذا المحب ناصحاً وموجهاً له، بل سيتغاضى عن أخطائه وتقصيره. كما قيل: حبك الشيء يعمي ويصم!

ج. ومن آثاره السيئة عليه: أنه إن كان مستجيباً لمن يحبه: ضاعت أوقاته معه، وإن لم يفعل تسبب في حصول القلق له، وهذا قد يؤدي به للنفرة عنه وبغضه في النهاية.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

".. فالرجل إذا تعلق قلبه بامرأة، ولو كانت مباحة له، يبقى قلبه أسيرا لها تحكم فيه وتتصرف بما تريد ; وهو في الظاهر سيدها لأنه زوجها. وفي الحقيقة هو أسيرها ومملوكها لا سيما إذا درت بفقره إليها ; وعشقه لها ; وأنه لا يعتاض عنها بغيرها ; فإنها حينئذ تحكم فيه بحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور ; الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل أعظم!! فإن أسر القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من استعباد البدن؛ فإن من استعبد بدنه واسترق لا يبالي إذا كان قلبه مستريحا من ذلك مطمئنا، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص؛ وأما إذا كان القلب الذي هو الملك رقيقا مستعبدا متيما لغير الله، فهذا هو الذل والأسر المحض والعبودية لما استعبد القلب ... فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب؛ كما أن الغنى غنى النفس؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: {ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى النفس} ، وهذا لعمري إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة؛ فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة أو صبيا، فهذا هو العذاب الذي لا يدان فيه [يعني: لا حيلة فيه] ؛ وهؤلاء من أعظم الناس عذابا وأقلهم ثوابا؛ فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقا بها مستعبدا لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى.. " انتهى " مجموع الفتاوى " (١٠/١٨٥-١٨٦) .

فيا أيتها الأخت العزيزة: اعلمي أننا في غاية السعادة من إكرامك لزوجك، وحبك له، لكننا سنكون سعداء أكثر إن جعلتِ حبَّك له متعقلاًَ، واعلمي أن كثرة الإلحاح على الزوج باتصاله أو وجوده في البيت أو تركه لسفرٍ معيَّن: كل ذلك سيجعله في قلق، أو يربك له حياته، وترتيبه لمهماته، ونحن نريد لبيتكم الكريم هذا أن يكون جو المودة فيه صحيا، معينا لأهله، والذرية التي يجعلها الله فيه، إن شاء الله، على معالي الأمور، والجد في أن يكونوا ذخرا لدينه، وعونا للصالحين من عباده.

والذي ننصحك به أيضاً:

أ. القيام بالواجبات الشرعية المطلوبة منك، وأداء النوافل.

ب. المحافظة على أذكار الصباح والمساء.

ج. القيام بطلب العلم قراءة واستماعاً.

د. القيام بدعوة النساء، من جيرانك وأقاربك.

هـ. احرصي على أن يكون في قلبك محبة شرعية لله، ولرسوله صلى الله عليه وسلم باتباع الأوامر، وترك النواهي، ومحبة لدين الله، تجعلك تدافعين عنه، وتنشرينه بين الناس، ومحبة طبيعية لوالديك وأبنائك.

وكل ذلك سيجعل لحياتك معنى أسمى من حصر الحياة في الزوج، وحصر المحبة فيه.

ونسأل الله تعالى أن يوفقك لما يحب ويرضى، وأن يديم عليكما الألفة والمودة والرحمة والحب، وأن يرزقكما الذرية الصالحة.

والله الموفق

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>