للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

تحلم بالموت وتخاف منه

[السُّؤَالُ]

ـ[كثيراً ما يأتي لي تذكر الموت، فأخاف خوفا شديدا..، وأحلم أني مت.. وأصبح خائفة جدا. وجزاك الله خيرا.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

الخوف من الموت شعور يصيب أكثر الناس، فقد فطر الله سبحانه الإنسان على حب الحياة والخوف من المجهول، وجعل الموت من عالم الغيب الذي لا يدرك حقيقته إلا من انتقل إليه، فإذا فكر الإنسان فيه لم يملك إلا أن يصيبه شعور الوحشة أو الخشية أو القلق من ذلك المستقبل المجهول.

هذا هو التفسير الطبيعي للخوف من الموت لدى الإنسان بوجه عام.

ولكن المؤمن المسلِّمَ لقضاء الله وقدره، الذي غرسَ حبَّ الله في قلبه، وزرعَ حسنَ الظن بالله في نفسه، يدرك أنه إنما يقبل بموته على رب كريم، وإله رحيم، يجزي بالحسنات إحسانا، ويتجاوز عن السيئات صفحا وغفرانا، وذلك للمؤمن المتعلق بالله فقط، المنكسر قلبه بين يديه سبحانه، التواب الأواب الذي

يقول الله تعالى: (أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ. لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) يونس/٦٢-٦٣.

يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:

" يخبر تعالى أن أولياءه هم الذين آمنوا وكانوا يتقون، كما فسرهم ربهم، فكل مَن كان تقيا كان لله وليا: أنه (لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ) أي: فيما يستقبلون من أهوال القيامة، (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) على ما وراءهم في الدنيا " انتهى.

"تفسير القرآن العظيم" (٤/٢٧٨)

وهكذا ينبغي أن تكوني أختي الكريمة ...

يجب علينا جميعا أن نسعى في ولاية الله تعالى، لننال محبته ورضوانه، ويكون حبه عز وجل أجمل ما في قلوبنا، فيصبح الموت حينئذ نقلة إلى نزل الكريم الرحيم سبحانه، وتحررا من آصار الدنيا وأغلالها إلى سعة الآخرة ونعيمها.

عَنْ أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ فَقَالَ: (مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) رواه البخاري (٦٥١٢) ومسلم (٩٥٠)

وعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عَنِ النَّبِىِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ. قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا لَنَكْرَهُ الْمَوْتَ. قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ، وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ، فَلَيْسَ شَىْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ، كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ)

رواه البخاري (٦٥٠٧) ومسلم (٢٦٨٣)

يقول القرطبي رحمه الله:

" هذه الكراهة للموت هي الكراهية الطبيعية التي هي راجعة إلى النفرة عن المكروه والضرر، واستصعاب ذلك على النفوس، ولا شك في وجدانها لكلِّ أحد، غير أن مَن رزقه الله تعالى ذوقًا من محبته، وانكشف له شيء من جمال حضرته، غلب عليه ما يجده من خالص محبته، فقال عند أزوف رحلته، مخاطبًا للموت وسكرته، كما قال معاذ ـ رضى الله عنه ـ: " حبيبٌ جاء على فاقة، لا أفلح اليوم من ندم وكان يقول عند اشتداد السكرات: "اخْنُقْنِي خنْقَك، فوَحقِّكَ إن قلْبي ليحبّك ".

"المفهم" (٢/٦٤٤)

فإذا استحضرت هذه المعاني في قلبك ونفسك، وعملت الأعمال الصالحة استعدادا ليوم الرحيل عن هذه الحياة الفانية، لم يضرك الموت بإذن الله، ولن يكون خوفك منه إلا سببا لكل خير وإقبال على الله، وليس سببا للهلاك أو القلق أو الفزع أو الإحباط لا قدر الله.

سئل الشيخ ابن باز رحمه الله السؤال الآتي:

" هل يجب على المؤمن عدم الخوف من الموت؟ وإذا حدث هذا فهل معناه عدم الرغبة في لقاء الله؟

فأجاب:

يجب على المؤمن والمؤمنة أن يخافا الله سبحانه ويرجواه؛ لأن الله سبحانه قال في كتابه العظيم: (فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) ، وقال عز وجل: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) ، وقال سبحانه: (وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) ، وقال عز وجل: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ) ، وقال عز وجل: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا) ، في آيات كثيرة.

ولا يجوز للمؤمن ولا للمؤمنة اليأس من رحمة الله، ولا الأمن من مكره، قال الله سبحانه: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ، وقال تعالى: (وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) ، وقال عز وجل: (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ)

ويجب على جميع المسلمين من الذكور والإناث الإعداد للموت والحذر من الغفلة عنه، للآيات السابقات، ولما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أكثروا من ذكر هادم اللذات - الموت)

ولأن الغفلة عنه وعدم الإعداد له من أسباب سوء الخاتمة، وقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. فقلت: يا نبي الله: أكراهية الموت فكلنا نكره الموت، قال: ليس كذلك ولكن المؤمن إذا بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله فأحب الله لقاءه، وإن الكافر إذا بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله فكره الله لقاءه) متفق عليه.

وهذا الحديث يدل على أن كراهة الموت والخوف منه لا حرج فيه، ولا يدل ذلك على عدم الرغبة في لقاء الله؛ لأن المؤمن حين يكره الموت أو يخاف قدومه، يرغب في المزيد من طاعة الله والإعداد للقائه، وهكذا المؤمنة حين تخاف من الموت وتكره قدومه إليها، إنما تفعل ذلك رجاء المزيد من الطاعات والاستعداد للقاء ربها.

" انتهى.

"مجموع فتاوى ابن باز" (٦/٣١٣-٣١٤)

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>