هل يقاطع رحِمه الذين يعملون المعاصي؟
[السُّؤَالُ]
ـ[هل يجوز لي مقاطعه أحد الأرحام بسبب تعامله بالربا، ويبيع أراضي لليهود، ومطعمه حرام؟ وهل يجوز طرح السلام عليه؟ .]ـ
[الْجَوَابُ]
الحمد لله
أولاً:
أوجب الله صلة الأرحام وحرَّم قطيعتها، قال تعالى: (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى) النساء/٣٦، وقال تعالى: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ) الروم/٣٨، وقال تعالى: (وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء/١.
والآيات والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، وهي توجب صلة الأرحام، وتُحرِّم قطيعتها، وقد لعن الله قاطع الرحم؛ قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) محمد/٢٢،٢٣.
فقطيعة الرحم كبيرة من كبائر الذنوب بلا خلاف يُعلم.
ثانياً:
الهجر للمسلم إما أن يكون على أمرٍ من أمور الدنيا، كالشجار بسبب الأولاد، وإما أن يكون بسبب أمرٍ شرعي، كفعل بدعة أو ارتكاب معصية.
فإن كان بسبب أمرٍ دنيوي، فلا يحل الهجر لأكثر من ثلاثة أيام، مع أنه ممنوع أصلاً، وإن كان بسببٍ شرعي فيجوز البقاء على الهجر لأكثر من ذلك، حتى يدع بدعته أو يتوب من معصيته.
وقد يكون الهجر بسبب البدعة أو المعصية، سبباً في أن يزيد في بدعه ومعاصيه، ولا يحقق المصلحة في الهجر؛ فحينئذٍ لا يجوز الهجر؛ لأن الهجر شرع لغاية التأديب والتنفير عن الاستمرار في المخالفة للشرع، فإذا لم يحقق مقصوده فلا يهجر، بل يسلك طرقاً أخرى في الإنكار، كالترغيب والترهيب والموعظة الحسنة أو الهدية، وغير ذلك.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -:
وأما هجر التعزير فمثل هجر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَه الثلاثة الذين خُلِّفوا، وهجر عمر والمسلمين لصبيغ، فهذا من نوع العقوبات، فإذا كان يحصل بهذا الهجر حصول معروف أو اندفاع منكر: فهي [يعني: عقوبة الهجر] مشروعة، وإن كان يحصل بها من الفساد ما يزيد على فساد الذنب، فليست مشروعة.
" مجموع الفتاوى " (٢٨ / ٢١٦، ٢١٧) .
وقال الشيخ عبد العزيز بن باز – رحمه الله – وقد سئل عن الموقف ممن يفعل بعض الكبائر -:
من يتهم بهذه المعاصي تجب نصيحته وتحذيره منها ومن عواقبها السيئة، وأنها من أسباب مرض القلوب وقسوتها وموتها، أما من أظهرها وجاهر بها: فالواجب أن يُقام عليه حدُّها، وأن يُرفع أمره إلى ولاة الأمور، ولا تجوز صحبتهم، ولا مجالستهم، بل يجب هجرهم لعل الله يهديهم ويمنُّ عليهم بالتوبة، إلا أن يكون الهجر يزيدهم شرّاً: فالواجب الإنكار عليهم دائماً بالأسلوب الحسن والنصائح المستمرة حتى يهديهم الله، ولا يجوز اتخاذهم أصحاباً، بل يجب أن يستمر في الإنكار عليهم وتحذيرهم من أعمالهم القبيحة.
" فتاوى إسلامية " (٤ / ٥٢٠) .
وقال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
فإن كان في الهجر مصلحة أو زوال مفسدة بحيث يكون رادعاً لغير العاصي عن المعصية، أو موجباً لإقلاع العاصي عن معصيته، كان الهجر حينئذٍ جائزاً، بل مطلوباً طلباً لازماً، أو مرغباً فيه، حسب عظم المعصية التي هجر من أجلها ... .
أما اليوم فإن كثيراً من أهل المعاصي لا يزيدهم الهجر إلاّ مكابرة وتمادياً في معصيتهم، ونفوراً وتنفيراً عن أهل العلم والإيمان؛ فلا يكون في هجرهم فائدة لهم ولا لغيرهم.
وعلى هذا فنقول:
الهجر دواء يستعمل حيث كان فيه الشفاء، وأما إذا لم يكن فيه شفاء، أو كان فيه إشفاء - وهو الهلاك -: فلا يستعمل.
فأحوال الهجر ثلاث:
إما أن تترجح مصلحته: فيكون مطلوباً.
وإما أن تترجح مفسدته: فينهى عنه بلا شك.
وإما أن لا يترجح هذا ولا هذا: فالأقرب النهي عنه؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة) .
" مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين " (٣ / السؤال رقم ٣٨٥) .
وقال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -:
هجر المؤمن لا يجوز فوق ثلاثة أيام إذا كان على أمر من أمور الدنيا، بل عليه أن يصالح أخاه وأن يُسلِّم عليه إذا لقيه، ومع أنه لا ينبغي ابتداءاً أن يهجر على أمر من أمور الدنيا، ولكن لو حصل شيء من الهجر: فإنه لا يتجاوز ثلاثة أيام، وهذا هو المراد بالحديث: (لا يَحِلُّ لمؤمن أن يهجُرَ أخاه فوقَ ثلاث) يعني: إذا كان الهجر على أمر من أمور الدنيا.
أما إذا كان الهجر لأجل معصية ارتكبها ذلك المهجور، وكانت هذه المعصية من كبائر الذنوب، ولم يتركها: فإنه يجب مناصحته وتخويفه بالله عز وجل، وإذا لم يمتنع عن فعل المعصية ولم يتب: فإنه يُهجَر؛ لأن في الهجر تعزيراً له وردعًا له لعله يتوب؛ إلا إذا كان في هجره محذور؛ بأن يُخشى أن يزيدَ في المعصية وأن يترتب على الهجر مفسدة أكبر؛ فإنه لا يجوز هجره في هذه الحالة؛ فهجر العاصي إنما يجوز إذا كان من ورائه مصلة ولا يترتب عليه مضرة أكبر.
" المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان " (١ / ٢٧٣، ٢٧٤) .
ثالثاً:
حكم السلام على صاحب البدعة والمعصية حكم الهجر، والأمر يدور على المصلحة وانتفاع المهجور، فإن كان الهجر يحدث فيه تغييراً للأفضل، فيُلحق السلامُ بالهجر فلا يسلَّم عليه، فإن كان الهجر غير مؤثر فيه: تُرك الهجر وتُرك الامتناع عن السلام.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله -:
الهجر إذا كان فيه مصلحة بالنسبة للفاسق: فاهجره، وإلا لا تهجره، لو مررت بشخصٍ يشرب الدخان - والدخان معصية وحرام، والإصرار عليه ينزل صاحبه من مرتبة العدالة إلى مرتبة الفسوق -: سلِّم عليه إذا رأيت أن هجره لا يفيد، سلِّم عليه ربما إذا سلمتَ عليه ووقفت معه وحدثته بأن هذا حرام، وأنه لا يليق بك: ربما يمتثل ويطفئ السيجارة ولا يعود، لكن لو أنك لم تسلِّم عليه، كبر ذلك في نفسه وكرهك وكره ما تأتي به من نصيحة، حتى لو أصر على المعصية: سلِّم عليه وانصحه.
" لقاءات الباب المفتوح " (١٦٥ / السؤال رقم ٨) .
وانظر للأهمية: جواب السؤال رقم (٢١٨٧٨) .
والله أعلم
[الْمَصْدَرُ]
الإسلام سؤال وجواب