للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يلزم أهل كل بلد بمذهب فقهي معين؟

[السُّؤَالُ]

ـ[هل ملزم كل بلد بتتبع مذهب خاص به، ومحاولة تعليمه للآخرين دون ذكر جميع المذاهب، مثلا ذكر حكم خاص بأمر شرعي قاله أحده المذاهب دون الآخرين. وجزاكم الله خيرا.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

الناس في البلاد – من حيث الاجتهاد والتقليد - على قسمين اثنين:

الأول: علماء مجتهدون في الشريعة، بلغوا من العلم والمعرفة حدًّا ملكوا به أدوات الاجتهاد والاستنباط، فهؤلاء فرضهم اتباع الحق الذي يرونه بدليله.

والقسم الثاني - وهو السواد الأعظم من الناس -: من لم يتخصص بدراسة العلوم الشرعية أو لم يبلغ فيها درجة الاجتهاد وأهلية الفتوى: من عامة الناس أو المثقفين والمتخصصين في العلوم الأخرى.

فهؤلاء فرضهم – الشرعي والطبيعي – سؤال أهل العلم، والأخذ عنهم، نجد ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) النحل/٤٣

إذا فأهل كل بلد ملزمون بسؤال أهل العلم واتباع فتاواهم، ولكنها ليست تبعية مطلقة تضفي على المتبوع صفة العصمة والقداسة وحق التشريع والتصرف في دين الله – كما وقع في ذلك اليهود والنصارى والرافضة وغلاة الصوفية والباطنية – فإن ذلك خروج عن الدين، واتخاذ للأنداد والشركاء والأرباب من دون الله، والله سبحانه وتعالى يقول: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) التوبة/٣١

وإنما المقصود من لزوم اتباع فتاوى العلماء هو الوصول إلى تعلم الحكم الشرعي من طريق المتخصصين الذين درسوا قواعد الشريعة وأصولها وبلغوا الأهلية فيها بالعلم المبني على الدليل، وليس بالقداسة الممنوحة باسم الرب أو باسم الولاية ونحو ذلك من الأباطيل.

يقول ابن تيمية في "مجموع الفتاوى" (٢٠/٢١١) :

" الله سبحانه وتعالى فرض على الخلق طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولم يوجب على هذه الأمة طاعة أحد بعينه في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى كان صِدِّيق الأمة وأفضلها بعد نبيها يقول: أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصوما في كل ما يأمر به وينهى عنه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال غير واحد من الأئمة: كل أحدٍ مِن الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم " انتهى.

ثانيا:

يبقى السؤال في تعيين أهل العلم أو المرجعية العلمية التي ينبغي الاعتماد عليها:

فيمكن القول بأن هناك مرجعيتين ينبغي الرجوع إليهما على مستوى الأمة والأفراد، وهي:

١- المرجعية المعاصرة: المتمثلة في المجامع الفقهية واللجان الشرعية التي يقوم عليها أهل العلم والديانة والأمانة، وكذلك أفراد العلماء وأصحاب الكفاءات من المتخصصين في العلوم الشرعية: فهؤلاء لهم حظ وافر من لزوم أخذ الناس عنهم والاستفادة من توجيهاتهم، خاصة في أمور الناس الحياتية اليومية، وفي النوازل الفقهية والقضايا المعاصرة، وأيضا في المسائل التي تحتاج إلى إعادة النظر والاجتهاد فيها في ضوء الأدلة الشرعية والعقلية التي تراعي المصالح وتدرء المفاسد، وترفع الحرج وتجتنب المشقة والضرر، إذا كان تقليد أحد المذاهب الأربعة فيها يسبب الحرج والضيق، فالشريعة مبنية على التيسير، وليس فيها عنت ولا حرج.

٢- المرجعية التراثية: المتمثلة في المذاهب الأربعة المشهورة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، وهذه المرجعية لها الحظ الأكبر والنصيب الأوفر من لزوم اتباع الناس لها والأخذ بما فيها: فإن القوانين التي يتواضع الناس في الرجوع إليها وتحكيمها، ومناهج التعليم التي تقرر على طلبة العلم في حلق المساجد والمدارس، ومراتب التنشئة العلمية التي يتدرج فيها المتخصصون في علوم الفقه والشريعة، والتراث الذي ينبغي أن يستقر في أذهان العوام ويشكل ثقافتهم الفقهية، والمنهل الذي يؤوب إليه كل من لا يجد الفرصة من المجتهدين لدراسة المسائل الكثيرة والوصول إلى نتيجة فيها، والانضباط الذي يحسم الشقاق والنزاع في المجتمع، ويسد على الأهواء والآراء الشاذة الأبواب، كل ذلك يمنح هذه المرجعية المتمثلة في المذاهب الأربعة المساحة الأرحب في لزوم التقليد وضرورة الاتباع.

يقول الحافظ ابن رجب في رسالة له اسمها "الرد على من اتبع غير المذاهب الأربعة" (٢/٦٢٤) – مطبوعة ضمن مجموع رسائله -:

" فاقتضت حكمة الله سبحانه أن ضبط الدين وحفظه: بأن نصب للناس أئمة مجتمعاً على علمهم ودرايتهم وبلوغهم الغاية المقصودة في مرتبة العلم بالأحكام والفتوى، من أهل الرأي والحديث، فصار الناس كلهم يعولون في الفتاوى عليهم، ويرجعون في معرفة الأحكام إليهم، وأقام الله من يضبط مذاهبهم ويحرر قواعدهم، حتى ضبط مذهب كل إمام منهم وأصوله وقواعده وفصوله، حتى ترد إلى ذلك الأحكام ويضبط الكلام في مسائل الحلال والحرام.

وكان ذلك من لطف الله بعباد المؤمنين، ومن جملة عوائده الحسنة في حفظ هذا الدين.

ولولا ذلك لرأى الناس العجاب مِن كل أحمق متكلف معجبٍ برأيه جريء على الناس وثَّاب.

فيدعي هذا أنه إمام الأئمة، ويدعي هذا أنه هادي الأمة، وأنه هو الذي ينبغي الرجوع دون الناس إليه، والتعويل دون الخلق عليه.

ولكن بحمد الله ومنته انسد هذا الباب الذي خطره عظيم وأمره جسيم، وانحسرت هذه المفاسد العظيمة، وكان ذلك من لطف الله تعالى لعباده، وجميل عوائده وعواطفه الحميمة.

ومع هذا فلم يزل يظهر من يدعي بلوغ درجة الاجتهاد، ويتكلم في العلم من غير تقليدٍ لأحد من هؤلاء الأئمة ولا انقياد.

فمنهم من يسوغ له ذلك لظهور صدقه فيما ادعاه، ومنهم من رد عليه قوله وكذب في دعواه، وأما سائر الناس ممن لم يصل إلى هذه الدرجة، فلا يسعه إلا تقليد أولئك الأئمة، والدخول فيما دخل فيه سائر الأمة " انتهى.

ويقول أيضا (٢/٦٢٨) :

" فإن قيل: فما تقولون في نهي الإمام أحمد وغيره من الأئمة عن تقليدهم وكتابة كلامهم، وقول الإمام أحمد: لا تكتب كلامي ولا كلام فلان وفلان، وتعلم كما تعلمنا. وهذا كثير موجود في كلامهم؟

قيل: لا ريب أن الإمام أحمد رضي الله عنه كان ينهى عن آراء الفقهاء والاشتغال بها حفظاً وكتابة، ويأمر بالاشتغال بالكتاب والسنة حفظاً وفهماً وكتابة ودراسة، وبكتابة آثار الصحابة والتابعين دون كلام مَن بعدهم، ومعرفة صحة ذلك من سقمه، والمأخوذ منه والقول الشاذ المطرح منه، ولا ريب أن هذا مما يتعين الاهتمام به والاشتغال بتعلمه أولاً قبل غيره.

فمن عرف ذلك وبلغ النهاية من معرفته - كما أشار إليه الإمام أحمد - فقد صار علمه قريباً من علم أحمد، فهذا لا حجر عليه ولا يتوجه الكلام فيه، إنما الكلام في منع من لم يبلغ هذه الغاية، ولا ارتقى إلى هذه النهاية، ولا فهم من هذا إلا النزر اليسير، كما هو حال أهل هذا الزمان، بل هو حال أكثر الناس منذ أزمان، مع دعوى كثير منهم الوصول إلى الغايات والانتهاء إلى النهايات، وأكثرهم لم يرتقوا عن درجة البدايات " انتهى.

والناظر في تاريخ الفقه والتشريع يجد أنه قد بني في جميع مراحله على مجموعة من أهل العلم الذين اشتهر في الناس علمهم، وذاع في الآفاق فضلهم وورعهم، يأخذون عنهم أحكام الدين، ويرجعون في الغالب إلى تقريرهم وفتاواهم.

يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" (١/١٧) :

" والدين والفقه والعلم انتشر في الأمة عن أصحاب ابن مسعود، وأصحاب زيد بن ثابت، وأصحاب عبد الله بن عمر، وأصحاب عبد الله بن عباس، فعلم الناس عامته عن أصحاب هؤلاء الأربعة، فأما أهل المدينة فعلمهم عن أصحاب زيد بن ثابت وعبد الله بن عمر، وأما أهل مكة فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن عباس، وأما أهل العراق فعلمهم عن أصحاب عبد الله بن مسعود " انتهى.

وقال العلامة المحقق أحمد باشا تيمور رحمه الله في " المذاهب الفقهية الأربعة " (١٦-١٧) :

" وكانت الفتيا ـ قبل حدوث هذه المذاهب تؤخذ في عصر الصحابة والتابعين عن القراء منهم، وهم الحاملون لكتاب الله العارفون بدلائله؛ فلما انقضى عصرهم، وخلف من بعدهم التابعون، اتبع أهل كل مصرٍ فتيا من كان عندهم من الصحابة، لا يعتدونها إلا في اليسير مما بلغهم عن غيرهم؛ فاتبع أهل المدينة في الأكثر فتاوى عبد الله بن عمر، وأهل الكوفة فتاوى عبد الله بن مسعود، وأهل مكة فتاوى عبد الله بن عباس، وأهل مصر فتاوى عبد الله بن عمرو بن العاص.

وأتى بعد التابعين فقهاء الأمصار، كأبي حنيفة ومالك وغيرهما ممن ذكرناهم، وممن لم نذكرهم، فاتبع أهل كل مصر مذهب فقيه في الأكثر، ثم قضت أسباب بانتشار بعض هذه المذاهب في غير أمصارها، وبانقراض بعضها.. " انتهى.

ولا يعني ذلك التعصب إلى واحد من المذاهب والأقوال، بحيث نوجب على الناس اتباعه حرفيا دون اجتهاد ولا تصويب ولا تعديل، بل المقصود أن المدرسة الفقهية التي ينبغي أن يتخرج الناس وطلبة العلم والعلماء عليها ينبغي أن تكون مأخوذة عن واحد من المذاهب الأربعة، ثم إن تبين – لمن لديه أهلية الاجتهاد – خطأ المذهب في مسألة معينة ترك تلك الفتوى، وأخذ بما يراه صوابا من المذاهب الأخرى.

وبهذا يحتفظ الناس بالسبيل العلمي الذي سار عليه السلف والأئمة، ويتخلصوا من بعض السلبيات التي أنتجها الجهل والتعصب.

جاء في "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" (٢/١٠ ش٢) :

" التمذهب بمذهب من المذاهب الأَربعة سائغ، بل هو كالإجماع، ولا محذور فيه، كالانتساب إِلى أَحد الأَربعة، فإِنهم أَئمة بالإِجماع.

والناس في هذا طرفان ووسط:

قوم لا يرون التمذهب بمذهب مطلقًا: وهذا غلط.

وقوم جمدوا على المذاهب ولا التفتوا إلى بحث.

وقوم رأَوا أَن التمذهب سائغ لا محذور فيه، فما رجح الدليل مع أَي أَحد من الأَربعة أَو غيرهم أَخذوا به، فالذي فيه نص أَو ظاهر لا يلتفت فيه إِلى مذهب، والذي لا من هذا ولا من هذا وكان لهم فيه كلام ورأَى الدليل مع مخالفهم أَخذ به " انتهى بتصرف يسير.

وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (٥/٢٨) :

" ما حكم التقيد بالمذاهب الأربعة، واتباع أقوالهم على كل الأحوال والزمان؟

الجواب:..

- القادر على الاستنباط من الكتاب والسنة يأخذ منهما كما أخذ من قبله، ولا يسوغ له التقليد فيما يعتقد أن الحق بخلافه، بل يأخذ بما يعتقد أنه حق، ويجوز له التقليد فيما عجز عنه واحتاج إليه..

- من لا قدرة له على الاستنباط يجوز له أيقلد من تطمئن نفسه إلى تقليده، وإذا حصل في نفسه عدم اطمئنان سأل حتى يحصل عنده اطمئنان ...

- يتبين مما تقدم أنه لا تتبع أقوالهم على كل الأحوال والأزمان؛ لأئهم قد يخطئون، بل يتبع الحق من أقوالهم الذي قام عليه الدليل " انتهى باختصار، وتصرف يسير.

وجاء فيها أيضا (٥/٥٤-٥٥) :

" وكل هؤلاء كانوا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا من أفضل أهل زمانهم رضي الله عنهم، وقد اجتهدوا في أخذ الأحكام من القرآن وأحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام وما أجمعت عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وبينوا للناس الحق، ونقلت إلينا أقوالهم، وانتشرت بين المسلمين في جميع بلادهم، وتبعهم كثير ممن جاء بعدهم من العلماء لثقتهم بهم، وائتمانهم إياهم على دينهم، وموافقتهم لهم في الأصول التي اعتمدوها، ونشروا أقوالهم بين الناس، ومن قلدهم من الأميين وعمل بما عرفه من أقوالهم نسب لمن قلده، وعليه مع ذلك أن يسأل من يثق به من علماء عصره، ويتعاون معه على فهم الحق من دليله.

ومما تقدم يتبين أنهم أتباع للرسول صلى الله عليه وسلم، وليس الرسول تابعا لهم، بل ما جاء به عن الله من شريعة الإسلام هو الأصل الذي يرجع إليه هؤلاء الأئمة وغيرهم من العلماء رضي الله عنهم، وكل مسلم يسمى حنيفيا لاتباعه الحنيفية السمحة التي هي ملة إبراهيم وملة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم " انتهى.

وانظر في موقعنا: (٥٥٢٣) ، (٥٤٥٩) ، (٢٣٢٨٠) ، (٢٦٢٦٩) .

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>