للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
رقم الحديث:

هل يجوز تخطي الرقاب ليرجع إلى موضعه الذي قام منه؟

[السُّؤَالُ]

ـ[في صلاة التراويح يأتي بعض الإخوة من بعد المغرب بقليل ليجلسوا في الصف الأمامي، ثم يريد أن يعود للخلف، ربما للوضوء أو غيره، فهل يرجع إلى مكانه ثانية؟ وهل يعتبر هذا تخطٍ للرقاب؟ نرجو التفصيل في موضوع تخطي الرقاب.]ـ

[الْجَوَابُ]

الحمد لله

أولاً: من جلس في مكان من المسجد فقام منه لحاجة، كوضوء أو غيره ثم عاد إليه فهو أحق به، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ قَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ) رواه مسلم (٢١٧٩) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: (الرَّجُلُ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ، وَإِنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ عَادَ فَهُوَ أَحَقُّ بِمَجْلِسِهِ) رواه الترمذي (٢٧٥١) وصححه الألباني في صحيح الجامع (٣٥٤٤) .

وقد سبق بيان ذلك في جواب السؤال (٦٦٢٧٩) .

ويجب على من جلس فيه أن يقوم منه إذا رجع إليه الأول.

قال النووي رحمه الله: " هذا هو الصحيح عند أصحابنا، وأنه يجب على من قعد فيه مفارقته إذا رجع الأول، وقال بعض العلماء: هذا مستحب ولا يجب، وهو مذهب مالك، والصواب الأول " انتهى من "شرح النووي على صحيح مسلم" (١٤/١٦٢) .

وهذا إذا ترك المكان لعذر، ثم عاد إليه، فأما إن تركه لغير عذر فيبطل حقه فيه بلا خلاف.

ذكره النووي في "المجموع" (٤/٤٢٠) .

ثانياً: إذا كان يترتب على رجوعه إلى مكانه الذي يجلس فيه تخطي الرقاب، فينبني الحكم فيه على حكم مسألتين: تخطي الرقاب، وتخطي الرقاب إلى فرجة في الصف المقدم.

أما تخطي الرقاب فقد اختلف العلماء في ذلك على قولين، فذهب جمع من العلماء إلى كراهة ذلك، وذهب آخرون إلى تحريمه.

وسبق في جواب السؤال (٤١٧٣١) بيان ذلك، وأن الصحيح هو القول بالتحريم.

هذه المسألة الأولى، وأما المسألة الثانية وهي حكم تخطي الرقاب إلى فرجة في الصف المقدم.

قال ابن قدامة في "المغني" (٢/١٠١) :

" إذا جلس في مكان ثم بدت له حاجة , أو احتاج إلى الوضوء , فله الخروج [يعني ولو أدى ذلك إلى تخطي الرقاب] قال عقبة: صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ , فَسَلَّمَ , ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا , فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى حُجَرِ بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَ: (ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي , فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ.. . فإذا قام من مجلسه , ثم رجع إليه فهو أحق به. . وحكمه في التخطي إلى موضعه حكم من رأى بين يديه فرجة " انتهى باختصار.

وقال أيضاً:

" " فإن رأى فرجة لا يصل إليها إلا بالتخطي , ففيه روايتان:

إحداهما: له التخطي. قال أحمد: يدخل الرجل ما استطاع , ولا يدع بين يديه موضعا فارغا , فإن جهل فترك بين يديه خاليا فليتخط الذي يأتي بعده , ويتجاوزه إلى الموضع الخالي , فإنه لا حرمة لمن ترك بين يديه خاليا , وقعد في غيره. وقال الأوزاعي: يتخطاهم إلى السعة. وقال قتادة: يتخطاهم إلى مصلاه. وقال الحسن: تخطوا رقاب الذين يجلسون على أبواب المساجد , فإنه لا حرمة لهم , وعن أحمد , رواية أخرى: إن كان يتخطى الواحد والاثنين فلا بأس , لأنه يسير , فعفي عنه , وإن كثر كرهناه , وكذلك قال الشافعي , إلا أن لا يجد السبيل إلى مصلاه إلا بأن يتخطى , فيسعه التخطي , إن شاء الله تعالى , ولعل قول أحمد , ومن وافقه في الرواية الأولى , فيما إذا تركوا مكانا واسعا , مثل الذين يصفون في آخر المسجد , ويتركون بين أيديهم صفوفا خالية , فهؤلاء لا حرمة لهم كما قال الحسن ; لأنهم خالفوا أمر النبي صلى الله عليه وسلم ورغبوا عن الفضيلة وخير الصفوف , وجلسوا في شرها , ولأن تخطيهم مما لا بد منه , وقوله الثاني في حق من لم يفرطوا , وإنما جلسوا في مكانهم ; لامتلاء ما بين أيديهم , لكن فيه سعة يمكن الجلوس فيه لازدحامهم , ومتى كان لم يمكن الصلاة إلا بالدخول وتخطيهم , جاز ; لأنه موضع حاجة " انتهى.

وقال النووي في "المجموع" (٤/٤٢٠) :

" وإن رأى فرجة قدامهم , لا يصلها إلا بالتخطي، قال الأصحاب: لم يكره التخطي ; لأن الجالسين وراءها مفرطون بتركها , وسواء وجد غيرها أم لا، وسواء كانت قريبة أم بعيدة، لكن يستحب إن كان له موضع غيرها أن لا يتخطى , وإن لم يكن موضع , وكانت قريبة بحيث لا يتخطى أكثر من رجلين ونحوهما دخلها , وإن كانت بعيدة ورجا أنهم يتقدمون إليها إذا أقيمت الصلاة يستحب أن يقعد موضعه ولا يتخطى , وإلا فليتخط. . . ثم ذكر عن قتادة أنه قال: يتخطاهم إلى مجلسه، وعن أبي نصر جواز ذلك بإذنهم , قال ابن المنذر: لا يجوز شيء من ذلك عندي. لأن الأذى يحرم قليله وكثيره " انتهى باختصار.

ونقل الحافظ في "فتح الباري" (٢/٤٣٣) عن الإمام الشافعي رحمه الله أنه قال:

أَكْرَه التَّخَطِّيَ إِلا لِمَنْ لا يَجِد السَّبِيل إِلَى الْمُصَلَّى إِلا بِذَلِكَ اهـ.

ثم قال الحافظ: " وَهَذَا يَدْخُل فِيهِ الإِمَام، وَمَنْ يُرِيد وَصْل الصَّفّ الْمُنْقَطِع إِنْ أَبَى السَّابِقُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَنْ يُرِيد الرُّجُوع إِلَى مَوْضِعه الَّذِي قَامَ مِنْهُ لِضَرُورَةٍ " انتهى

وقال الشيخ ابن عثيمين في " الشرح الممتع" (٥/٧٠) :

" فإن قال قائل: الحديث عام (اجلس فقد آذيت) ؛ لأن ظاهر الحال أن هناك فرجة؛ لأنه ليس من العادة أن يتخطى الإنسان الرقاب إلا إلى فرجة.

ولكن الفقهاء رحمهم الله استثنوا هذه المسألة، فقالوا: لأنه إذا كان ثمة فرجة فإنهم هم الذين جنوا على أنفسهم؛ لأنهم مأمورون أن يكملوا الأول فالأول، فإذا كان ثمة فرجة فقد خالفوا الأمر، وحينئذٍ يكون التفريط منهم، وليس من المتخطي.

ولكن الذي أرى: أنه لا يتخطى حتى ولو إلى فرجة؛ لأن العلة وهي الأذية موجودة، وكونهم لا يتقدمون إليها قد يكون هناك سبب من الأسباب، مثل: أن تكون الفرجة في أول الأمر ليست واسعة، ثم مع التزحزح اتسعت، فحينئذٍ لا يكون منهم تفريط، فالأولى الأخذ بالعموم وهو ألا يتخطى إلى الفرجة، لكن لو تخطى برفق واستأذن ممن يتخطاه إلى هذه الفرجة فأرجو أن لا يكون في ذلك بأس " انتهى.

والحاصل أن تخطي رقاب الناس لا يخلو من حالين:

الأولى:

أن يكون لغير عذر، فهذا يحرم لقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً) الأحزاب/٥٨.

ولقوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ: (اجْلِسْ، فَقَدْ آذَيْتَ) .

الثانية:

أن يكون ذلك لعذر، فلا حرج فيه إن شاء الله، ويدخل في ذلك عدة صور:

فمنها: الإمام إذا كان لا يجد طريقاً إلى موضعه إلا بالتخطي.

ومنها: أن يريد الخروج من مكانه لحاجة، لحديث عقبة المتقدم.

ومنها: إذا كان جالسا في موضع متقدم ثم قام منه لعارض ثم عاد إليه جاز له التخطي.

وخلاصة الجواب:

أنه لا حرج إن شاء الله تعالى على من تخطى الرقاب ليعود إلى مجلسه الذي قام منه، على أن يكون ذلك برفق ويستأذن من الناس، وقد جرت عادة الناس بالتسامح مع من يتخطى إلى موضعه الذي قام منه.

والله أعلم.

[الْمَصْدَرُ]

الإسلام سؤال وجواب

<<  <  ج: ص:  >  >>