بحث الفقهاء عن خيارات المشتري فيما لو عجز البائع عن تقديم المبيع وقت التسليم، فليس بيع السلم بمنزلة بيع العين الحاضرة، ولكن كونه من عقود الغرر، لا يعني أن إباحته ليست على وفق القياس، فالغرر منه ما هو مباح مطلقًا، كالغرر اليسير، والغرر التابع، ومنه ما هو محرم تبيحه الحاجة، كالغرر الكثير إذا كانت هناك حاجة عامة إليه، والمقصود بالحاجة العامة أي حاجة عامة المزارعين، أو الحرفيين، وليس المقصود كافة الناس، ولا شك أن حاجة الناس إلى السلم اليوم أشد من حاجتهم إليه وقت التشريع، فقد كان المزارعون من الصحابة فقراء يحتاجون إلى المال لاستصلاح حرثهم ومزارعهم، وكان الأغنياء يسلفون منهم الثمار السنة، والسنتين، وكانت التجارة ميسرة، وبسيطة، وخالية من التعقيد، وتدخل الدولة في التجارة كان محدودًا جدًا بالقدر الذي يمنع من الغش، ويقيم العدل، أما اليوم ومع تعقيد التجارة، وفرض قيود، ومكوس على من يريد أن يمارسها، وأصبحت الدول تتدخل في جميع تفاصيلها، وانتشر الاحتكار، وتوفر التمويل الربوي في أصقاع الأرض، تكون الحاجة إلى مشروعية السلم حاجة لا تخص فئة خاصة من المزارعين، أو الصناعيين، بل تلبي حاجة قائمة لدى مختلف شرائح المجتمع، فغالب الناس اليوم بحاجة إلى تمويل مباح يفي بحاجاتهم دون الوقوع في محذور شرعي.
والمعاملات المالية ليست كالعبادات، فقد يتنازع المعاملة الواحدة موجبان، أحدهما يبيحها، والآخر يمنعها، ويراعي الشارع أقوى الداعيين، فليس من شرط المعاملة المباحة أن تكون خالية من أي داع للتحريم، المهم ألا يكون هذا الداعي هو الأقوى، كما في الخمر، فإن فيها إثمًا كبيرًا، ومنافع للناس، وعندما كان الإثم أكبر لم ينظر إلى المنافع، ولو كانت المنافع أكثر لم ينظر إلى الإثم، وهكذا معاملات الناس، والله أعلم.