عصر، ومن بلد إلى آخر، وإذا كان الحنفية يمنعون الاستصناع في الثياب في عصرهم، فإنه لا يمكن أن يمنع من ذلك في عصرنا، لجريان التعامل بين الناس في عصرنا على الذهاب إلى الخياط، وتحديد القماش، ثم يقوم البائع بخياطة القماش إلى ثوب، أو إلى غيره مما يلبس، وهكذا إذا تعامل الناس فيما لم يجر فيه التعامل من قبل، أمكن أن يجري فيه عقد الاستصناع، والله أعلم، وهذا لا إشكال فيه بحسب مذهب الحنفية، والذين وضعوا هذا الشرط، وهو أن يجري الاستصناع بما جرى فيه التعامل بين الناس.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، كيف نفتح أمام الاستصناع هذا الباب الواسع في كل ما تدخله الصنعة، فإننا بهذا التوسع نكون قد خالفنا المذاهب الأربعة جميعًا: الثلاثة الذين لم يقبلوا عقد الاستصناع من الأصل إلا إذا توفرت فيه شروط السلم، وفي مقدمها: تعجيل الثمن، والحنفية الذين لم يجيزوه مستقلًا عن السلم إلا بشرط أن يجري فيما تعارف الناس على التعامل فيه؛ لأن العمل فيه من لدن الناس جعله مستثنى من الأصل، فما لم يتعارف الناس على التعامل فيه، لا يصح فيه الاستصناع، تمسكًا بالأصل، وهو عدم جواز بيع المعدوم، ومن ثم قيدوا القول بالجواز بالمتعارف؟
قال الشيخ مصطفى الزرقاء:
«هذه ملاحظة واردة بالنظر الفقهي، وتحتاج إلى جواب.
ويبدو لنا في الجواب: أن تنوع الحاجات، والصناعات، واختلاف الأشكال، والأوصاف، والخصائص في أصناف النوع الواحد، إلى درجة كبيرة مما تفتقت عنه أذهان المخترعين في عصر الانفجار الصناعي هذا، قد أدى إلى أن يصبح طريق الاستصناع متعارفًا عليه في كل ما يصنع بوجه عام» (١).
(١) مجلة مجمع الفقه الإسلامي، العدد السابع (٢/ ٢٥٤).