للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَاا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [البقرة:٢٧٨] إلى قوله تعالى: {وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٧٩].

فأمر بترك ما بقي من الربا قليلًا كان أو كثيرًا، وأن أخذه منافيًا للتقوى، وأن أي زيادة يأخذها المرابي على رأس المال فهي من الربا المحرم، كما دل قوله تعالى {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة:٢٧٩] (١)،

فدل على أن كل زيادة على رأس المال فهي داخلة في الظلم، قليلة كانت الزيادة أم كثيرة.


(١) ذهب عامة المفسرين إلى أن معنى قوله {لا تظلمون ولا تظلمون} [البقرة:٢٧٩] أي لا تظلمون الناس بطلب الزيادة على رأس المال، ولا تظلمون أي بنقص رأس المال. انظر تفسير الطبري (٣/ ١٠٩)، زاد المسير (١/ ٣٣٤)، أحكام القرآن للجصاص (١/ ٣٤٧)، تفسير الرازي (٧/ ٦٦)، تفسير السعدي (ص: ١١٧)، تفسير السمرقندي (١/ ٢٠٩).
روى الطبري في تفسيره (٣/ ١٠٩) من طريق أبي صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون، ولا تظلمون، قال: لا تظلمون فتربون، ولا تظلمون فتنقصون.
وقال ابن عطية في تفسيره المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (١/ ٣٧٥): «ويحتمل أن يكون لا تظلمون في مطل؛ لأن مطل الغني ظلم كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالمعنى أن يكون القضاء مع وضع الربا، وهكذا سنة الصلح، وهذا أشبه بالصلح، ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أشار إلى كعب ابن مالك في دين ابن أبي حدرد بوضع الشطر، فقال كعب: نعم يا رسول الله، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للآخر: قم فاقضه، فتلقى العلماء أمره بالقضاء سنة في المصالحات». وانظر تفسير القرطبي (٣/ ٣٦٥).

قال رفيق المصري في الجامع في أصول الربا (ص:٥٦): «لو كان المعنى كما هو ظاهر قول المفسرين - من أن معنى لا تظلمون بالنقص من رأس المال - لأمكن للمقرض أن يتمسك بمبدأ الحفاظ على رأس ماله، أي على قوته الشرائية، بحيث لو هبطت قيمة النقود طالب باسترداد مبلغ القرض بقيمته يوم الإقراض، ولم يقل بهذا أحد من الفقهاء فيما نعلم، ولاسيما في نقود الذهب والفضة، وقال به بعضهم في الفلوس، وفي الفضة إذا غلب عليها الغش: أي إذا كانت نسبة المعدن الثمين نسبة قليلة مرجوحة.
ولو كان هذا المعنى كما يقولون لأمكن أيضًا للمقرض، وهذا غير مراد للمفسرين والفقهاء أن يطالب المقترض بجبر ما فاته من منافع، وتعويض ما لحقه من أضرار نتيجة تخليه عن ماله إلى المقترض، فقد يحتاج إليه، ولا يكون المقترض قادرًا على رده إليه، وقد يعسر المقترض أو يفلس، فلا يخلو إقراض الفقراء والمحتاجين من مثل هذه المخاطر».
قلت: ولو كان معنى قوله: {لا تظلمون} كما فسره الجمهور لكان رد المدين أقل من الدين الذي عليه كما لو أبرأه الدائن لا يجوز، ولا خلاف فيما أعلمه أنه لو رد المقترض أقل مما اقترضه من غير شرط، ورضي المقرض أن ذلك جائز. انظر بدائع الصنائع للكاساني (٧/ ٣٩٤ - ٣٩٥)، الأم للشافعي (٣/ ٤٢).
واختلفوا فيما لو اشترط عليه ذلك. فقيل: لا يجوز مطلقًا، وهذا أحد الوجهين عند الشافعية، والمذهب عند الحنابلة، وقول ابن حزم من الظاهرية.
وقيل: يجوز مطلقًا، وهو وجه عند الشافعية، وقول مرجوح في مذهب الحنابلة.
وقيل: إن كان المال المقرض مما يجري فيه الربا فلا يجوز اشتراط الوفاء بالأقل، وإن كان مما لا يجري فيه الربا فيجوز اشتراط الأقل، اختاره بعض الحنابلة. والراجح جوازه، وسوف نتعرض لهذه المسألة بالبحث إن شاء الله تعالى في مظانها من هذه المنظومة.

<<  <  ج: ص:  >  >>