أرفقوا فهو لكم. فأعتقد أنه لو كان لذلك الرجل ذنوب مثل الجبال لغفرت لما صادف من إشباع جوعنا. فرأيت أن حجي ليس فيه منفعة لغيري، وأني لو عملت موضعًا يستظل به إنسان كان أفضل من حجي، وكان مع ذلك يكره كثرة العلائق ويقول: لو قيل لي في المنام: إنك تصير إلى هذا الحال ما صدّقت.
وبنى عند المشهد خانًا للسبيل، وكان يعمل عامّة نهاره في الحر والغبار، ويقول: لو أن لي من يعمل معي في الليل لعملت، وعمل لنفسه رحىً، وكان يتقوّت منه باليسير، ويخرج الباقي في البرّ.
دخلت عليه في بيته مرارًا وهو يتعشّى، فما رأيته جالسًا في سراج قط، ولا كان تحته حصير جيّد قط ولا فراش، بل حصير عتيق، تحته قش الرز، وحضرت يومًا معه في مكان، فلما حضر وقت الغداء جلسنا نتغدّى، وأخرج رغيفًا كان معه، فأكل نصفه، وناولني باقيه، وقال: ما بقي يصلح لي أن آكل شيئًا ولا أعمل شيئًا، وقال لي: وددت أني لآتي مكانًا لا أخرج منه حتى أموت.
وسمعته يقول: وذكر لي إنسان أن بعض الرؤساء عرض عليه ملكًا يقفه عليه، فقال له أبو بكر: وأيش نعمل به، لو لم يكن في مالهم شبهة إلا الجاه لكفى.
سمعت فتيان بن نيّاح الحرّاني، وكان عالم أهل حران وقد جرى بيننا ذكر الكرامات فقال: أنا لا أحكي عن الأموات ولكن عن الأحياء. هذا أبو بكر بن إسماعيل حج في بعض السنين، فلما قرب مجيء الحاج جاء الخبر أن أبا بكر قد مات. فجلست محزونًا فجاءتني والدته وأنا في مكاني هذا، فسلّمت، فرددت عليها متحزّنًا، فقالت: أيش هو؟ فقلت: هو الذي يحكى، فقالت: ما هو صحيح، قلت: من أين لك؟ قالت: هو قال لي قبل أن يخرج إنه سيبلّغك أني قد متّ، فلا تصدقي، فإني لا بد أجيء وأتزوّج، وأرزق ابنًا وأموت، قال: فأول من جاء هو، وتزوّج ورزق ابنًا، ومات، هذا مع كراهيته إظهار الكرامات والدعاوى.