للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرأي والرفق وعدم العسف. وكان يستحضر التجار ويكشف منهم أخبار الممالك النائية، وفي بعض الليالي قال لي ابن يعلى وزير الملك الظاهر غازي: إن السلطان الليلة مهموم؛ لما اتصل به من أخبار خوارزم شاه وطمعه في الشام. فقلت له: هذا سعادة للسلطان ولك ولي. قال: وكيف؟ قلت: هذا ملك واسع الدائرة لا يقدر أن يقيم بالشام، وغرضه القهر والاستيلاء، وسلطاننا فيه ملق وحسن تودد ومداراة، فإذا قرب لاطفه وأتحفه، فإذا استولى على ممالك الشام لم يجد من يستنيبه عليها سواه. قال: وكيف عرفت هذا؟ قلت: من التجار. فلما أصبح قص عليه ما جرى فسري عنه، وأمر أن يحقق ذلك، فاستدعى بتاجر خبير بغدادي وحادثه، فزعم أنه حاضره وبايعه، وذكر من أحواله أنه يبقى أربعة أيام أو نحوها على ظهر فرسه ولا ينزل، وإنما ينتقل من فرس إلى فرس، ويتضمر، ويطوي البلاد. وأنه ربما أتى البلد الذي يقصده في نفر يسير فيهجمه ثم يصبحه من عسكره عشرة آلاف ويمسيه عشرون ألفا، وفي كثير من الأوقات يأتي المدد وقد قضى الحاجة بنفسه. وفي كثير من الأوقات يبعث البعوث ويأتي أخيرا وقد قضيت الحاجة أولا. وربما هجم البلد في نفر دون المائة فيقضي حاجته، وربما قتل ملك ذلك البلد أو أسره ثم تتدفق جموعه. وقال: إن سرجه ولجامه لا تبلغ قيمتها دانقا، ولا تبلغ قيمة ثيابه دانقين. وحكى أنه في بعض غاراته نزل بأصحابه آخر الليل وكانوا نحو سبعين فارسا، فأمرهم بالهجعة، وأخذ خيلهم يسيرها بعدما استقى من بئر وسقى الجميع، فلما علم أنهم قد أخذوا من النوم بنصيب أيقظ بعضهم وأمرهم بالحراسة، ثم هجع يسيرا، ونهض ونهضوا كالعفاريت وهجموا على المدينة، وقتل ملكها. وسألني الوزير عنه مرة أخرى، فقلت: لا يمكنه أن يدخل الشام؛ لأنه إن أتى بجمع قليل لم ينل غرضا مع شجاعة أهل الشام، والفلاحون يكفونه، وإن أتى بجمع كثير لم تحمله الشام؛ لأن خيلهم تأكل الحشيش، ولا حشيش بالشام، وأما الشعير ففي كل مدينة كفاية دوابها. ثم أخذت أحسب معه ما في حلب من الدواب فبلغت مع التكثير خمسين ألفا، فإذا ورد سبعمائة ألف فرس أخذوا عليق شهر في يوم أو يومين، ثم إنهم ليس لهم صناعة في الحرب سوى المهاجمة، وأخذهم البلاد إنما هو بالرعب والهيبة لا بالعدل والمحبة، وهذه الحال لا تنفع مع شجاعة أهل الشام. وعقيب موت الملك الظاهر

<<  <  ج: ص:  >  >>