للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

كان القائم بتدبير دولة أستاذه وأعطاه الإمريّة، فلمّا توفّي نور الدّين قام بتدبير ولده السّلطان الملك القاهر عزّ الدّين مسعود ابن نور الدّين، فلمّا توفّي سنة خمس عشرة أقام بدر الدّين أخوين صبيّين ولدي القاهر، وهما ابنا بنت مظفَّر الدّين صاحب إربل، واحداً بعد واحد. ثمّ استبدّ بملك الموْصل أربعين سنة، والأصحّ أنّه تسلطن في أواخر رمضان سنة ثلاثين وستمائة.

وكان حازماً شجاعاً، مدبّراً، ذا حزم ورأي، وفيه كرم وسُؤْدُد وتجمُّل، وله هيبة وسطْوة وسياسة. كان يغْرم على القُصّاد أموالاً وافرة، ويحترز ويداري الخليفة من وجهٍ، والتّتار من وجهٍ، وملوك الأطراف من وجهٍ، فلم ينخرم نظام مُلْكه، ولم تطْرُقه آفةٌ. وكان مع ظلمه وجوده محبَّباً إلى رعيَّته لأنّه كان يعاملهم بالرّغْبة والرَّهبة.

ذكره الشّيخ قطْبُ الدّين فقال: كان ملكاً جليل القدْر، عالي الهمّة، عظيم السَّطْوة والسّياسة، قاهراً لأمرائه. قتل وشنق وقطع ما لا نهاية له حتّى هذَّب البلاد. ومع هذا فكان محبوباً إلى رعيّته، يحلفون بحياته، ويتغالون فيه، ويلقّبونه قضيب الذّهب. وكان كثير البحث عن أخبار رعيّته، توفّي في عشْر التّسعين وفي وجهه النّضارة، وقامتُه حسنَة، يخيَّل إلى من يراه أنّه كهل.

قلت: ولمّا رأى أنّ جاره مظفَّر الدّين صاحب إربل يتغالى في أمر المولد النّبويّ ويغْرم عليه في العام أموالاً عظيمة، ويُظْهر الفرح والزّينة، عمد هو إلى يوم في السّنة، وهو عيد الشّعانين الّذي للنّصارى، لعنهم الله، فعمل فيه من اللهو والخمور والمغاني ما يضاهي المولد، فكان يمدّ سِماطاً طويلاً إلى الغاية بظاهر البلد، ويجمع مغاني البلاد، ويكون السّماط خونْجاً وباطيةَ خمرٍ على هذا التّرتيب، ويحضره خلائق، وينثر على النّاس الذّهب من القلعة، يسفي الذّهب بالصّينيّة الذّهب، ويرميه عليهم، وهم يقتتلون ويتخاطفون الدّنانير الخفيفة، ثمّ يعمد إلى الصّينيّة في الآخر فتقصّ له بالكازن من أقطارها إلى المركز، وتخلّى معلَّقةً بحيث أنّه إذا تجاذبوها طلع في يد كلّ واحدٍ منها قطعة. فحدّثونا أنّه كان بالموصل رجلٌ يقال له عثمان القصّاب، كان طُوالاً ضخْماً، شديد الأيْد والبطْش، بحيث أنّه جاء إلى مخاضةٍ ومعه خمس شِياه ليدخل البلد ويقصبها، فأخذ تحت ذا الإبط رأسين، وتحت الإبط الآخر رأسين، وفيه فمه رأساً، وخاض الماء بهم إلى النّاحية الآخرى. فإذا رمى

<<  <  ج: ص:  >  >>