أبا معاوية الضرير، معي مائة حديث، فوجدت ضريرا يحجبه لينفعه. فوهبته مائة درهم، فاستأذن لي. فقرأت المائة حديث، فقال لي أبو معاوية: هذا معيل ضعيف، وما وعدته يأخذه من أذناب الناس، وأنت أنت. قلت: قد جعلتها مائة دينار. قال: أحسن الله جزاءك.
وقال إسحاق: أنشدت الأصمعي شعرا لي، على أنه لشاعر قديم:
هل إلى نظرة إليك سبيل … يرو منها الصدى ويشفى الغليل
إن ما قل منك يكثر عندي … وكثير من الحبيب القليل
فقال: هذا الديباج الخسرواني. قلت: إنه ابن ليلته. فقال: لا جرم فيه أثر التوليد. قلت: ولا جرم فيك أثر الحسد.
وقال أبو عكرمة الضبي قال: حدثنا إسحاق الموصلي قال: دخلت على الرشيد فأنشدته:
وآمرة بالبخل قلت لها: اقصري … فذلك شيء ما إليه سبيل
أرى الناس خلان الجواد، ولا أرى … بخيلا له في العالمين خليل
وإني رأيت البخل يزري بأهله … فأكرم نفسي أن يقال بخيل
ومن خير حالات الفتى لو علمته … إذا نال شيئا أن يكون ينيل
عطائي عطاء المكثرين تكرما … ومالي كما قد تعلمين قليل
وكيف أخاف الفقر أو أحرم الغنى … ورأي أمير المؤمنين جميل (١)؟
قال: لا كيف إن شاء الله. يا فضل، أعطه مائة ألف درهم. لله در أبيات تأتينا بها، ما أجود أصولها، وأحسن فصولها. فقلت: يا أمير المؤمنين كلامك أحسن من شعري. فقال: يا فضل أعطه مائة ألف أخرى. قال: فكان ذلك أول ما اعتقدته.
وهذه الكلمة لإسحاق: رضا المتجني غاية ليس تدرك، وأنشد:
ستذكرني إذا جربت غيري … وتعلم أنني لك كنت كنزا
بذلت لك الصفاء بكل جهدي … وكنت كما هويت فصرت جزا
وهنت عليك لما كنت ممن … يهون إذا أخوه عليه عزا
ستندم إن هلكت وعشت بعدي … وتعلم أن رأيك كان عجزا
(١) الأبيات في الأغاني ٥/ ٣٢٢.