بدا لأبي بكر، فابتنى مسجدا بفناء داره وبرز، فيصلّي فيه ويقرأ القرآن، فيتقصّف عليه نساء المشركين وأبناؤهم، يعجبون وينظرون إليه، وكان أبو بكر لا يكاد يملك دمعه حين يقرأ، فأفزع ذلك أشراف قريش فأرسلوا إلى ابن الدّغنة، فقدم عليهم، فقالوا له: إنّا كنّا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربّه في داره، وإنّه جاوز ذلك، وابتنى مسجدا بفناء داره، وأعلن الصّلاة والقراءة، وإنّا قد خشينا أن يفتن أبناؤنا ونساؤنا، فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربّه في داره فعل، وإن أبى إلاّ أن يعلن ذلك فسله أن يردّ عليك جوارك، فإنّا قد كرهنا أن نخفرك، ولسنا مقرّين لأبي بكر الاستعلان.
قالت عائشة: فأتى ابن الدّغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه، فإمّا أن تقتصر على ذلك، وإمّا أن تردّ إليّ ذمتي، فإنّي لا أحبّ أن تسمع العرب أنّي أخفرت في رجل عقدت له، قال أبو بكر: أردّ إليك جوارك وأرضى بجوار الله. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ بمكة، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمسلمين: قد أريت دار هجرتكم، أريت سبخة ذات نخل بين لابتين. وهما الحرّتان، فهاجر من هاجر قبل المدينة حين ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورجع إلى المدينة بعض من كان هاجر إلى أرض الحبشة.
وتجهّز أبو بكر مهاجرا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: على رسلك، فإنّي أرجو أن يؤذن لي، قال: هل ترجو بأبي أنت ذلك؟ قال: نعم، فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصحبه، وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السّمر أربعة أشهر. فبينا نحن جلوس في بيتنا في نحر الظّهيرة، قيل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا متقنّعا في ساعة لم يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له أبي وأميّ، أمّا والله إن جاء به في هذه السّاعة إلاّ أمر، قالت: فجاء واستأذن، فأذن له فدخل، فقال لأبي بكر: أخرج من عندك، قال أبو بكر: إنّما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله، فقال: اخرج فقد أذن لي في الخروج، قال: فخذ منّي إحدى راحلتيّ قال: بالثمن، قالت عائشة: فجهّزتهما أحثّ الجهاز، فصنعنا لهما سفرة في جراب، فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها