وحازت الفرنج أموالًا وأمتعة لا تحصى، وأسروا خمسمائة نفس، ونحو ثلاثة آلاف جمل محملة، فقويت نفوس الملاعين بالظفر والغنائم، وعزموا على قصد القدس. وسار كندهري إلى صور، وطرابلس، وعكا، يستنفر الناس، فهيأ السّلطان القدس وحصنها للحصار، وأفسد المياه التي بظاهر القدس كلها، وجمع الأمراء للمشورة، قال القاضي بهاء الدّين بن شداد: فأمرني أن أحثهم على الجهاد، فذكرت ما يسر اللَّه، وقلت: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما اشتد به الأمر بايع الصحابة على الموت، ونحن أول من تأسى به، فنجتمع عند الصخرة، ونتحالف على الموت. فوافقوا على ذلك. وسكت السّلطان طويلا، والناس كأن على رؤوسهم الطير، ثمّ قال: الحمد لله والصلاة على رسول اللَّه. اعلموا أنكم جند الإسلام اليوم ومنعته، وأنتم تعلمون أن دماء المسلمين وأموالهم وذراريهم متعلقة في ذمتكم. وأن هذا العدو ليس له من يلقاه غيركم، فلو لويتم أعنتكم، والعياذ بالله، طوى البلاد، وكان ذلك في ذمتكم، فإنكم أنتم الذين تصديتم لهذا، وأكلتم بيت مال المسلمين. فانتدب لجوابه سيف الدّين المشطوب وقال: نحن مماليكك وعبيدك، وأنت الذي أنعمت علينا وعظمتنا، وليس لنا إلا رقابنا، وهي بين يديك؛ والله ما يرجع أحد منا عن نصرتك إلى أن يموت. فقال الجماعة مثل ما قال، فانبسطت نفس السّلطان وأطعمهم، ثمّ انصرفوا. فلما كان عشاء الآخرة اجتمعنا في خدمته على العادة وسمرنا وهو غير منبسط. ثمّ صلينا العشاء الآخرة، وكانت الصلاة هي الدستور العام، فصلينا وأخذنا في الانصراف فاستدعاني وقال: أعلمت ما تجدد؟ قلت: لا. قال: إن أبا الهيجاء السمين نفذ إلي اليوم وقال: اجتمع اليوم عنده الأمراء، وأنكروا موافقتنا على الحصار، وقالوا: لا مصلحة في ذلك، فإنَّا نُحصر ويجري علينا ما جرى على أهل عكا، وعند ذلك تؤخذ بلاد الإسلام أجمع. والرأي أن نعمل مصافًا، فإن هزمناهم ملكنا بقية بلادهم، وإن تكن الأخرى سلم العسكر وذهب القدس. وقد انحفظت بلاد الإسلام وعساكرها مدة بغير القدس. وكان السّلطان - رحمه الله - عنده من القدس أمر عظيم لا تحمله الجبال، فشقت عليه هذه الرسالة. وبت تلك الليلة في خدمته إلى الصباح،