للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

إلى آمد سنة أربع وتسعين فرأيت أهلها مطبقين على وصف هذا الشيخ، فقصدته إلى مسجد الخضر، ودخلت عليه، فوجدت شيخًا كبيرًا قضيف الجسم (١) في حجرة من المسجد، وبين يديه جمدان (٢) مملوء كتبًا من تصانيفه، فسلمت عليه وجلست، فقال: من أين أنت؟ قلت: من بغداد. فهش بي، وأقبل يسألني عنها، وأخبره، ثم قلت: إنما جئت لأقتبس من علومك شيئًا. فقال: وأي علم تحب؟ قلت: الأدب. قال: إن تصانيفي في الأدب كثيرة؛ وذاك أن الأوائل جمعوا أقوال غيرهم وبوبوها، وأنا فكل ما عندي من نتائج أفكاري، فإنني قد عملت كتاب الحماسة (٣)، وأبو تمام جمع أشعار العرب في حماسته، وأنا فعلمت حماسة من أشعاري، ثم سب أبا تمام، وقال: رأيت الناس مجمعين على استحسان كتاب أبي نواس في وصف الخمر، فعملت كتاب الخمريات من شعري، لو عاش أبو نواس، لاستحيى أن يذكر شعره، ورأيتهم مجمعين على خطب ابن نباتة، فصنفت خطبًا ليس للناس اليوم اشتغال إلا بها. وجعل يزري على المتقدمين، ويصف نفسه ويجهل الأوائل، ويقول: ذاك الكلب. قلت: فأنشدني شيئًا. فأنشدني من لخمريات له، فاستحسنت ذلك، فغضب وقال: ويلك ما عندك غير الاستحسان؟ فقلت: فما أصنع يا مولانا؟ قال: تصنع هكذا، ثم قام يرقص ويصفق إلى أن تعب. ثم جلس وهو يقول: ما أصنع ببهائم (٤) لا يفرقون بين الدر والبعر! فاعتذرت إليه، وأنشدني شيئًا آخر. وسألته عن أبي العلاء المعري، فنهرني، وقال: ويلك كم تسيء الأدب بين يدي، ومن ذلك الكلب الأعمى حتى يذكر في مجلسي!


= تصحفت سنة اللقاء في جـ ٦ فجاءت سنة ٥٩٣ هـ وهو من وهم الطبع كما يظهر. والظاهر أن الموقاني المتوفى سنة ٦٦٤ قد نقلها في بعض مجاميعه، وكانت له كما ذكر الذهبي مجاميع مفيدة (تاريخ الإسلام ٦٧/ الترجمة ١٤٢).
(١) رجل قضيف: قليل اللحم (أساس البلاغة ٧٧٤).
(٢) الجمدان: الوعاء الكبير. وهو معرب (انظر المعرب للجواليقي ص ٤٧).
(٣) العبارة هنا مضطربة وهي في الأصل، أعني عند ياقوت: "وكنت كلما رأيتُ الناس مجمعين على استحسان كتاب في نوع من الآداب استعملت فكري وأنشأت من جنسه ما أدحض به المتقدم؛ فمن ذلك أن أبا تمام جمع أشعار العرب في حماسته وأنا فعملت حماسة من أشعاري وبنات أفكاري" (إرشاد ٥/ ١٣٠).
(٤) في إرشاد ياقوت: ما أصنع وقد ابتليت ببهائم.