للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نعم، نظر الذهبي إلى كثير من العلماء بمنظار المحدثين، ونظر إلى بعض من يختلفون معه في العقيدة بمنظار عقيدته وهلم جرًّا، ولكنه في الوقت نفسه استطاع أن ينظر إلى كل طائفة منهم بمنظار آخر كوّن في الأغلب صورة لجماع رأيه في ذلك الشخص.

إن تعدد المناظير هذا جعل آراء الذهبي في المترجَمين تبدو لأول وهلة متناقضةً كل التناقض، نحو قوله في ترجمة هشام بن محمد الكلبي المتوفى سنة ٢٠٤ هـ: "النسابة العلامة الأخباري الحافظ … لم يكن ثقة وفيه رفض" (١)، وقوله في ترجمة أحمد بن أبي دؤاد الإيادي المعتزلي الذي قاد أعنف حملة على زعماء أهل الحديث وغير القائلين بخلق القرآن: "وكان مُصَرِّحًا بمذهب الجهمية داعية إلى القول بخلق القرآن. وكان موصوفًا بالجود والسخاء وحسن الخلق وغزارة الأدب" (٢). وقد صار عدم التعميم في الذم أو المدح أصلًا من أصوله النقدية، قال في رده على ابن الصلاح "ت ٦٤٣ هـ "الذي هاجم الماوردي "ت ٤٥٠ هـ" بسبب الاعتزال "فلا تحط يا أخي على العلماء مطلقًا ولا تبالغ في تقريظهم مطلقًا" (٣).

ثم إن اختلاف المناظير عند الذهبي جعله يراعي في كل طائفة صفات معينة بصرف النظر عن اتفاقه أو اختلافه معهم، فكان ينظر إلى الخلفاء والملوك مثلًا من زاوية الحزم، والدهاء، والقوة والضعف، والسياسة، والظلم والعدل، وحب العلم ونحوها، قال في ترجمة أبي جعفر المنصور: "وقد مر من أخباره في الحوادث ما يدل على أنه كان فحل بني العباس هيبةً وشجاعة وحزمًا ورأيًا وجبروتًا، وكان جمّاعًا للمال تاركًا للهو واللعب كامل العقل جيد المشاركة في العلم والأدب، فقيه النفس، قتل خلقًا كثيرًا حتى استقام ملكه. وكان في الجملة يرجع إلى عدل وديانة وله حظ من صلاة وتدين … خليقًا للإمارة" (٤)، وقال في ترجمة الخليفة المأمون: "كان من رجال بني العباس حزمًا وعزمًا وحلمًا وعلمًا ورأيًا ودهاء وهيبة وشجاعة وسؤددًا وسماحة وله


(١) الورقة ٧٥ - ٧٦ (أيا صوفيا ٣٠٠٦).
(٢) ٥/ ٧٥٨.
(٣) الورقة ٤٨٥ (أيا صوفيا ٣٠٠٩).
(٤) ٤/ ١٠٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>