للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والمؤرخين الذين جاؤوا بعده أقصى حدودِ الاعتبار، وظهرتْ بصورةٍ جلية في المؤلفات التي كتبتْ بعد عصره، ولا سيما في مؤلفات مؤرخ القرن التاسع وحافظه ابن حجر العسقلاني المتوفى سنة ٨٥٢ هـ (١).

وتطالعنا عند قراءة كتب الذهبي العديد من الأمثلة التي تدل على قوته في البحث والاستدلال، ومناقشة آراء الغير بروحٍ علميٍّ يعتمدُ الدليلَ والإقناع، من ذلك - مثلًا - مناقشته لمن اتهم الحافظ أبا حاتم محمد بن حبان البستي التميمي المتوفى سنة ٣٥٤ هـ بالزندقة لقوله: "إنَّ النبوة هي العلم والعمل" وما تبع ذلك من كتابةِ الخليفةِ أمرًا بقتله لهذا السبب، قال الذهبيُّ: "وهذا أيضًا له مَحْملٌ حَسَنٌ ولم يرد حصر المبتدأ بالخبر، ومثله: الحج عرفة. فمعلومٌ أن الرجلَ لا يصيرُ حاجًا بمجردِ الوقوفِ بعرفة، وإنما ذكر مهمَّ الحجِّ، ومهمَّ النبوة؛ إذْ أكملُ صفاتِ النبيِّ العلم والعمل، ولا يكون أحد نبيًا إلا أنْ يكون عالمًا عَاملًا. نعم، النبوةُ موهبةٌ من الله تعالى لمن اصطفاه من أولي العلم والعمل لا حيلةَ للبشرِ في اكتسابها أبدًا، وبها يتولَّدُ العلمُ النافع الصالح، ولا ريبَ أن إطلاق ما نقل عن أبي حاتم لا يسوغ، وذلك نفس فلسفي" (٢). ومن الأمثلة الطريفة أيضًا مناقشته لمسألة معرفة النبي الكتابة، فقال في ترجمة الحافظ العلامة أبي الوليد سليمان بن خلف الباجي المتوفى سنة ٤٧٤ هـ: "ولما تكلم أبو الوليد في حديث الكتابة يوم الحديبية الذي في البخاري قال بظاهر لفظه، فأنكر عليه الفقيه أبو بكر بن الصائغ، وكَفَّرَهُ بإجازةِ الكَتْبِ على رسولِ الله النبيِّ الأمي وأنه تكذيبٌ بالقرآن، فتكلم في ذلك مَنْ لمَ يفهم الكلام حتى أطلقوا عليه الفتنةَ وقَبَّحُوا عند العامة ما أتى به وتكلَّم به خطباؤهم في الجُمع وقال شاعرهم:

برئت ممن شَرَى دنيا بآخرةٍ … وقال: إنَّ رسول الله قد كتبا

وصنف أبو الوليد رسالةً بَيَّنَ فيها أن ذلك غير قادحٍ في المعجزة فرجع بها جماعة. قلتُ: ما كُلُّ مَنْ عرف أنْ يكتبَ اسمه فقط بخارجٍ عن كونه أميًّا لأنه


(١) انظر مثلًا كتابه: "لسان الميزان".
(٢) الذهبي: تذكرة، ج ٣ ص ٩٢١ - ٩٢٢، وانظر أيضًا ميزان الاعتدال، ج ٣ ص ٥٠٧ - ٥٠٨ ففيه تفصيل أكثر في هذه المسألة.

<<  <  ج: ص:  >  >>