للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأنحَل جِسْمى، ولو أن رَبى نزَع الهيبةَ التي في صَدرِى، وأطلَق لِساني حتى أتكلَّمَ بملءِ فَمِي، ثم كان ينبَغي للعبدِ أن يُحاجَّ عن نفسِه، لرجَوتُ أن يُعافيَني عندَ ذلك مما بي، ولكنه ألقاني وتعالى عنى، فهو يَرانى ولا أَراه، ويسمَعُنى ولا أسمَعُه، لا نظَر إليَّ فرحِمني، ولا دَنا منى ولا أدناني فأُدْلِيَ بعْذرِى، وأتكلَّمَ ببراءَتي، وأُخاصِمَ عن نفسِي.

لمّا قال ذلك أيوبُ وأصحابُه عندَه، أظَلَّه غمامٌ حتى ظَنَّ أَصحابُه أنه عذابٌ، ثم نُودِيَ منه (١): يا أيوبُ، إن الله يقولُ: ها أنذا ذا قد دَنوتُ منك، ولم أَزَلْ منك قريبًا، فقُمْ فَأَدْلِ بعُذرِك الذي زَعَمتَ، وتكلَّمْ ببراءتِك، وخاصِمْ عن نفسِك، واشدُدْ إزارَك. ثم ذكَر نحوَ حديثِ ابن عسكرٍ، عن إسماعيلَ، إلى آخرِه، وزاد فيه: ورَحمتى سبَقت غضَبي، فاركُضْ برِجلِك هذا مغتَسَلٌ باردٌ وشرابٌ فيه شفاؤُك، وقد وهَبتُ لك أهلَك ومثلَهم معهم، ومالَك ومثلَه معه. وزعَموا: ومثلَه معه لتكونَ لمن خلفَك آيةً، ولتكونَ عبرةً لأهلِ البلاءِ، وعزاءً للصابرين. فركَض برِجْلِه، فانفجَرتْ له عَيْنٌ، فدخَل فيها فاغتَسل، فأذهَب اللهُ عنه كلَّ ما كان به من البلاءِ، ثم خرَج فجلَس، وأقبلَت امرأتُه تلتِمسُه في مضجَعِه، فلم تجِدْه، فقامَتْ كالوالهةِ متلدِّدةً، ثم قالت: يا عبدَ اللهِ، هل لك عِلمٌ بالرجلِ المبتَلى الذي كان ههنا؟ قال: لا. ثم تبَسَّم، فعرَفته بمضحَكِه، فاعتنقَتْه.

حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن محمدِ بن إسحاقَ، عن بعضِ أهلِ العلمِ، عن وهبِ بن منبهٍ، قال: فحدَّثتُ عبدَ اللهِ بنَ عباسٍ حديثَه، واعتنِاقَها إياه، فقال عبد الله: فوالذى نفسُ عبدِ اللهِ بيدِه، ما فارَقَتْه من عِناقِه حتى مرَّ بهما (٢)


(١) بعده في م: "ثم قيل له".
(٢) في م: "بها".