فمعلومٌ أن من أجودِ الكلامِ أن يُقالَ: وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ، ويَختارُ ما يشاءُ، لم يكنْ لهم خَيْرُ بهيمةٍ، أو خيرُ طعامٍ، أو خيرُ رجلٍ أو امرأةٍ.
فإن قال: فهل يجوزُ أن تكونَ بمعنى المَصْدَرِ؟ قيل: لا. وذلك أنها إذا كانت مصدرًا، كان معنى الكلامِ: وربُّك يخلُقُ ما يشاءُ، ويَختارُ كَوْنَ الخيرةِ لهم. وإذا كان ذلك معناه، وجَب ألا يكونَ الشِّرارُ لهم من البهائمِ والأنعامِ، وإذا لم يكنْ لهم شِرارُ ذلك، وجَب ألا يكونَ لها مالِكٌ، وذلك ما لا يَخْفَى خَطَؤُه؛ لأن لخيارِها ولشِرارِها أربابًا، يَمْلِكونها بتمليكِ اللهِ إياهم ذلك، وفى كون ذلك كذلك فسادُ تَوْجيهِ ذلك إلى مَعْنَى المصدرِ.
وقولُه: ﴿سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾. يقولُ تعالى ذكره: تَنْزِيهًا للَّهِ وتَبْرِئَةً له وعُلُوًّا عمَّا أضافَ إليه المشركون مِن الشِّرْكِ، وما تَخَرَّصُوه مِن الكذبِ والباطلِ عليه. وتأويلُ الكلامِ: سبحانَ اللهِ وتعالى عن شركِهم.
وقد كان بعضُ أهلِ العربيةِ (١) يُوجِّهُه إلى أنه بمعنى: وتعالى عن الذى يُشركون به.
يقولُ تعالى ذكره: وربُّك يا محمدُ يَعْلَمُ ما تُخْفى صدور خلقه. وهو مِن: أكْنَنْتُ الشيءَ فى صَدْرى، إذا أَضْمَرْتَه فيه. وكَنَنْتُ الشيءَ، إذا صُنْتَه. ﴿وَمَا يُعْلِنُونَ﴾. يقولُ: وما يُبْدُونه بألسنتِهم وجوارحِهم.
وإنما يَعْنى بذلك أن اختيارَه مَنْ يَختارُ منهم للإيمانِ به، على عِلمٍ منه بسَرائرِ أُمورِهم وبَوَادِيها، وأنه يَختارُ للخيرِ أهلَه، فيُوَفِّقُهم له، ويُولِّى الشرَّ أهْلَه، ويُخَلِّيهم
(١) هو أبو عبيدة فى مجاز القرآن ٢/ ١٠٩، وفيه: عن الذين.