وقال آخرون: بلْ ذلكَ أمْرُ من الله نبيَّه ﷺ بالعفوِ عن المشركين، وترْكِ الغِلظةِ عليهم قبل أن يُفرَضَ قتالهم عليه.
ذِكرُ من قال ذلك
حدثني يونس، قال: أخبرَنا ابن وهبٍ، قال: قال ابن زيد في قوله: ﴿خُذِ الْعَفْوَ﴾. قال: أمره فأعرضَ عنهم عشْرَ سنينَ بمكَّةَ، قال: ثم أمَره بالغِلْظَة عليهم وأن يَقْعُدَ لهمْ كُلَّ مَرصدٍ وأن يَحْصُرَهُم، ثم قال: ﴿فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلوةَ﴾ [التوبة: ٥]. الآية كلها، وقرأَ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣، التحريم: ٩]. قال: وأَمَر المؤمنين بالغِلظة عليهم، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مَّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: ١٢٣]. بعد ما كانَ أمَرهُم بالعفو، وقرأ قولَ اللهِ: ﴿قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ﴾ [الجاثية: ١٤]. ثم لم يقبلْ منهم بعد ذلك إلا الإسلام أو القتل، فنسَخَتْ هذه الآيةُ العفو (١).
قال أبو جعفرٍ: وأَوْلَى هذه الأقوال بالصوابِ قولُ مَن قال: معناه: خُذِ العفو من أخلاقِ الناس واتْركِ الغلظةَ عليهمْ. وقال: أُمِر بذلك نبيُّ الله ﷺ في المشركين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصوابِ؛ لأنّ الله جل ثناؤُه أَتْبَعَ ذلك تعليمَه نبيَّه ﷺ مُحاجَّتَه المشركين في الكلام، وذلك قوله: ﴿قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنظِرُونِ﴾ [الأعراف: ١٩٥]. وعقَّبه بقوله: ﴿وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ﴾ ﴿وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا﴾ [الأعراف: ٢٠٢ - ٢٠٣].
فما بين ذلكَ بأن يكون من تأديبه نبيَّه ﷺ في عِشْرتِهم به أشبهُ وأوْلَى من الاعتراض
(١) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٥/ ١٦٣٨، ١٦٣٩ من طريق أصبغ عن ابن زيد مختصرًا.