للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

طاعتِه بعد معصيتِهم، ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم في قبولِه توبتَهم، ومُراجعتَهم إلى ما يُحِبُّ مما يَكْرَهُ، فيَصْفَحُ بذلك مِن فعلِهم عما سلَف مِن إجْرامِهم قبلَ ذلك.

القولُ في تأويلِ قولِه: ﴿مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾.

وهذا مِن اللهِ تعالى ذكرُه احْتجاجٌ (١) لنبيِّه محمدٍ على فِرَقِ النصارى في قولِهم في المسيحِ، يقولُ مُكَذِّبًا لليَعْقوبيةِ في قِيلِهم: هو اللهُ. والآخرين في قيلِهم: هو ابن اللهِ: ليس القولُ كما قال هؤلاء الكفَرةُ في المسيحِ، ولكنه ابن مريمَ، ولَدَته وِلادةَ الأمهاتِ أبناءَهن، وذلك مِن صفةِ البشرِ، لا مِن صفةِ خالقِ البشرِ، وإنما هو للهِ رسولٌ كسائرِ رسلِه الذين كانوا قبلَه، فمضَوْا وخَلَوْا، أَجْرَى على يدِه ما شاء أن يُجْرِيَه عليها من الآياتِ والعِبَرِ؛ حجةً له على صدقِه، وعلى أنه للهِ رسولٌ إلى مَن أرْسَله إليه مِن خلقِه، كما أجْرَى على أيدى مَن قبلَه مِن الرسلِ من الآياتِ والعبرِ، حجةً لهم على حقيقةِ صدقِهم في أنهم للهِ رسلٌ.

﴿وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ﴾. يقولُ تعالى ذكرُه: وأمُّ المسيحِ صِدِّيقةٌ. والصِّدِّيقةُ الفِعِّيلةُ مِن الصدقِ، وكذلك قولُهم: فلانٌ صِدِّيقٌ. فِعِّيلٌ مِن الصدقِ، ومنه قولُه تعالى ذكرُه: ﴿وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ﴾ [النساء: ٦٩]. وقد قيل: إن أبا بكرٍ الصديقَ إنما قيل له: الصِّدِّيقُ لصدقِه. وقد قيل: إنما سُمِّى صِدِّيقًا لتصديقِه النبيَّ في مسيرِه في ليلةٍ واحدةٍ إلى بيت المقدسِ مِن مكةَ وعودِه إليها.

وقولُه: ﴿كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ﴾. خبرٌ مِن اللهِ تعالى ذكرُه عن المسيحِ وأمِّه، أنهما كانا أهلَ حاجةٍ إلى ما يَغْذُوهما وتَقُومُ بِهِ أَبْدانُهما، مِن المَطاعمِ


(١) في النسخ: "احتجاجا". وسيأتي في كلام المصنف في الآية بعدها كما أثبتناه.