رحل ابن جرير من مدينة آمُل لما ترعرعَ، وسَمَح له أبوه بالسفر، وكان عمره عشرين سنة، وكان أبوه طول حياته ينفذ إليه بالشيء بعد الشيء إلى البلدان.
فدخل أبو جعفر مدينة السلام، وكان في نفسه أن يسمع من أبي عبد اللَّه أحمد بن حنبل فلم يتفق ذلك لموته قبيل دخوله إليها، وقد كان أبو عبد اللَّه قطع الحديث قبل ذلك بسنين، فأقام أبو جعفر بمدينة السلام وكتب عن شيوخها فأكثر، ثم انحدر إلى البصرة فسمع مِمَّن كان بقي من شيوخها في وقته كمحمد بن موسى الحرشي، وعماد بن موسى القزاز، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، وبشر بن معاذ، وأبي الأشعث، ومحمد بن بشار، بُندار، وغيرهم، فأكثر، وكتب في طريقه عن شيوخه الواسطيين، ثم صار إلى الكوفة فكتب فيها عن أبي كريب محمد بن العلاء الهمذاني، وهناد بن السري، وإسماعيل بن موسى وغيرهم.
ثم عاد إلى مدينة السلام، فكتب بها وتفقه ولزم المقام بها، وأخذ في علوم القرآن، ثم غَرَّب فخرج إلى مصر، وأخذ في طريقه من المشايخ بأجناد الشام والسواحل والثغور وأكثر منها، ثم صار إلى الفسطاط (١) في سنة ثلاث وخمسين ومائتين، وكان بها بقية من الشيوخ وأهل العلم فأكثر عنهم الكتابة من علوم مالك والشافعي وابن وهب وغيرهم، ثم عاد إلى الشام، ثم رجع إلى مصر، وقال: لما دخلت مصر لم يبق أحد من أهل العلم إلا لقيني وامتحنني في العلم الذي يتحقق به.
ثم رجع إلى مدينة السلام وكتب أيضًا، ثم رجع إلى طبرستان وهي العودة الأولى له إليها، وكانت الثانية في سنة تسعين ومائتين، ثم رجع إلى بغداد فنزل في
(١) الفُسطاط: مجتمع أهل الكورة وعلم مصر العتيقة التي بناها عمرو بن العاص. القاموس المحيط (ف س ط).