للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قرءوا ذلك بضمِّ النونِ، فإنَّهم وجَّهوا معنى الكلامِ إلى أنَّ المعبودين في الدنيا إنَّما تبرَّءوا إلى اللهِ أنْ يكونَ كان لهم أنْ يُعْبُدوا مِن دونِ اللهِ جلَّ ثناؤُه، كما أخبَر اللهُ عن عيسى أنَّه قال إذ (١) قيل له (٢): ﴿أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ -: ﴿مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾، ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٦، ١١٧].

قال أبو جعفرٍ: وأولى القراءتين في ذلك عندى بالصوابِ قراءةُ مَن قرَأه بفتحِ النونِ؛ لعللٍ ثلاثٍ؛ إحداهنَّ، إجماع الحُجَّةِ مِن القرَأةِ عليها، والثانيةُ، أنَّ الله جلَّ ثناؤُه ذكَر نظيرَ هذه القصةِ في "سورةِ سبأ"، فقال: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (٤٠) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾ [سبأ: ٤٠، ٤١]. فأخبَر عن الملائكةِ أنَّهم إذا سُئِلوا عن عبادةِ من عبَدهم، تبرَّءوا إلى اللهِ مِن وَلايتِهم، فقالوا لربِّهم: ﴿أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ﴾. فذلك يُوضِّحُ عن صحةِ قراءةِ من قرَأ ذلك: ﴿مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ﴾. بمعنى: ما كان ينبغى لنا أنْ نتخذَهم من دونِك أولياءَ. والثالثةُ، أنَّ العربَ لا تُدْخِلُ "مِنْ" هذه التي تَدْخُلُ في الجحدِ إلَّا في الأسماءِ، ولا تُدْخِلُها في الإخبارِ، لا يقولون: ما رأيتُ أخاك مِن رجلٍ. وإنَّما يقولون: ما رأيتُ من أحدٍ، وما عندِى مِن رجلٍ. وقد دخَلتْ ههنا في "الأولياءِ"، وهى في موضعِ الخبرِ، ولو لم تكنْ فيها "مِن"، كان وجهًا حسنًا.

وأما البُورُ فمصدرٌ واحدٌ، وجمعٌ للبائرِ، يقالُ: أصبحتْ منازِلُهم بُورًا. أي: خاليةً لا شيءَ فيها. ومنه قولُهم: بارتِ السُّوقُ، وبار الطعامُ. إذا خَلا مِن الطُّلَّابِ


(١) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "إذا".
(٢) سقط من: م، ف.