للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والصوابُ مِن القولِ عندَنا في ذلك أن هذه الآيةَ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، وذلك أن صفة الناسخ والمنسوخ ما قد بينا في غير موضعٍ [مِن كُتُبِنا] (١) أنه ما لم يَجْزِ اجتماعُ حكمَيْهما في حالٍ واحدةٍ، أو ما قامت الحجة بأنَّ أحدهما ناسخٌ الآخرَ، وغيرُ مستنكَرٍ أن يكون جَعْلُ الخيارِ في المنِّ والفداءِ والقتلِ إلى رسولِ اللهِ ، وإلى القائمين بعده بأمر الأمةِ، وإن لم يكنِ القتلُ مذكورًا في هذه الآيةِ؛ لأنه قد أُذِن بقتلِهم في آيةٍ أخرى، وذلك قولُه: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾ الآية. بل ذلك كذلك؛ لأن رسولَ اللهِ كذلك كان يفعَلُ في من صار أسيرًا في يدِه من أهلِ الحربِ، فيقتُلُ بعضًا، ويُفادِى ببعضٍ، ويمُنُّ على بعضٍ، مثلَ يومِ بدرٍ؛ قتَل عقبةَ بنَ أبي مُعَيطٍ وقد أُتِى به أسيرًا، وقتَل بني قُرَيظةَ وقد نزَلوا على حكمِ سعدٍ، وصاروا في يدِه سِلمًا، وهو على فدائِهم والمنِّ عليهم قادرٌ، وفادَى بجماعةٍ أُسارى المشركين الذين أُسروا ببدرٍ، ومنَّ على ثُمامةَ بن أُثَالٍ الحنفىٍ وهو أسيرٌ في يده، ولم يزَلْ ذلك ثابتًا من سِيَرِه في أهل الحربِ، من لَدُنْ أذِن اللهُ له بحربِهم إلى أن قبَضه إليه ، دائمًا ذلك فيهم. وإنما ذكر جلَّ ثناؤُه في هذه الآيةِ المنَّ والفداءَ في الأُسارى، فخصَّ ذكرَهما فيها؛ لأن الأمرَ بقتلِهما والإذنَ منه بذلك قد كان تقدَّم في سائرِ آيِ تنزيلِه مكرَّرًا، فأعلَم نبيَّه بما ذكَر في هذه الآيةِ من المنِّ والفداءِ ما له فيهم، مع القتلِ.

وقولُه: ﴿حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾. يقولُ تعالى ذكرُه: فإذا لقِيتم الذين كفَروا فاضرِبوا رقابَهم، وافعَلوا بأَسراهم ما بيَّنتُ لكم، حتى تضعَ الحربُ آثَامَها (٢) وأثقالَ أهلِها المشرِكين بالله، بأن يتوبوا إلى الله من شركِهم فيؤمنوا به وبرسولِه،


(١) في م: "في كتابنا"، وفي ت ١: "من كتابنا هذا". وينظر ما تقدم في ٢/ ٤٥٨.
(٢) في ت ١: "أثقالها". وفى ت ٢، ت ٣: "أثاثها".