وقال آخرون: قولُه: ﴿بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾: بل ملةَ إبراهيمَ مُخلِصًا. فالحَنِيفُ على قولِهم، المُخْلِصُ دينَه للهِ وحدَه.
ذكرُ من قال ذلك
حدثنا محمدُ بنُ الحسينِ، قال: ثنا أحمدُ بنُ المفضَّلِ، قال: ثنا أسباطُ، عن السدىِّ: ﴿وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النساء: ١٢٥]. يقولُ: مخْلِصًا (١).
وقال آخرون: بل الحَنِيفيةُ الإِسلامُ، فكلُّ مَن ائْتَمَّ بإبراهيمَ في مِلَّتِه فاستقام عليها فهو حَنِيفٌ.
قال أبو جعفرٍ: والحَنيفُ عندي هو الاستقامةُ على دينِ إبراهيمَ واتباعُه على مِلَّتِه، وذلك أن الحَنِيفيةَ لو كانت حجَّ البيتِ، لوجَب أن يكونَ الذين كانوا يَحُجُّونه في الجاهليةِ من أهلِ الشركِ كانوا حنفاءَ، وقد نَفَى اللهُ جل ثناؤه أن يكونَ ذلك تَحَنُّفًا بقولِه: ﴿وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [آل عمران: ٦٧]. وكذلك القولُ في الختانِ؛ لأنَّ الحَنِيفيةَ لو كانت هى الخِتانَ، لوجَب أن يكونَ اليهودُ حنفاءَ، وقد أخرجَهمُ اللهُ من ذلك بقولِه: ﴿مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا﴾ [آل عمران: ٦٧]. فقد صحَّ إذن أن الحنيفيةَ ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيتِ وحدَه، ولكنّه هو ما وصَفْنا من الاستقامةِ على ملةِ إبراهيمَ واتباعِه عليها والائتمامِ به فيها.
فإن قال قائلٌ: أَوَما كان مَن كان قبلَ إبراهيمَ ﵇ من الأنبياءِ وأتباعِهم مستقيمِين على ما أُمِروا به من طاعةِ اللهِ استقامةَ إبراهيمَ وأتباعِه؟ قيل: بلى.
فإن قال قائلٌ: فكيف أُضِيفَ الحَنِيفيةُ إلى إبراهيمَ وأتباعِه على مِلَّتِه خاصةً دونَ
(١) أخرجه ابن أبي حاتم في تفسيره ٤/ ١٠٧٤ (٦٠١١) من طريق أحمد بن المفضل به.