للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد قال قومٌ (١): إن مَعنى ذلك: فاذْكُروني كما أرسَلْنا فيكم رسولًا منكم أذكُرْكم. وزعَموا أن ذلك من المقدَّمِ الذي مَعناه التأْخيرُ، فأغرَقوا النَّزْعَ (٢)، وبعُدوا من الإصابةِ، وحمَلوا الكلامَ على غيرِ معناه المعروفِ، وسِوَى وجهِه المفهومِ. وذلك أن الجاريَ من الكلامِ على ألسُنِ العربِ، المفهومَ في خطابِهم بينَهم، إذا قال بعضُهم لبعضٍ: كما أحسَنتُ إليك يا فلانُ فأحسِنْ. أن لا يشترطوا: لأُحسن (٣). لأن الكافَ في "كما" شرطٌ، معناه: افعَلْ كما فعَلتُ. ففي مجئ جوابِ: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾. بعدَه، وهو قولُه: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ أوضحُ الدليلِ على أن قولَه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا﴾ من صلةِ الفعلِ الذي قبلَه، وأن قولَه: ﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ﴾ خبرٌ مبتدأٌ منقطِعٌ عن الأَولِ، وأنه من سببِ قولِه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ بمعزِلٍ.

وقد زعَم بعضُ النحْويين (٤) أن قولَه: ﴿فَاذْكُرُونِي﴾ إذا جُعِل قولُه: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ﴾ جوابًا له جمع قولِه: ﴿أَذْكُرْكُمْ﴾ نظيرُ الجزاءِ الذي يُجابُ بجوابين، كقولِ القائلِ: إذا أتاك فلانٌ فائْتِه تُرْضِه. فيصيرُ قولُه: فائْته (٥) تُرْضِه جَوابين لقولِه: إذا أتاك. وكقولِه: إن تأتني أُحسِنْ إليكَ أُكْرِمْك.

وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهبِ، فليس بالأشهرِ (٦) الأفصحِ في كلامِ العربِ، والذي هو أوْلَى بكتابِ اللهِ أن يوجَّهَ إليه من اللغاتِ الأفصحُ الأعرفُ من كلامِ العربِ، دونَ الأنْكَرِ الأجهلِ من منطقِها. هذا، مع بُعد وَجْهِه من المفهومِ في التأويلِ.


(١) هو الفراء في معاني القرآن ١/ ٩٢.
(٢) أغرق النازع في القوس: أي استوفى مدها، يضرب مثلا للغلو والإفراط. اللسان (غ ر ق).
(٣) في م: "للآخر".
(٤) هو من قول الفراء أيضًا، ينظر معاني القرآن ١/ ٩٢.
(٥) بعده في م: "و".
(٦) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "بالأسهل".