للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ملك الحبشةِ: إني قد بنَيتُ لك أيُّها الملك كنيسةً لم يُبنَ مثلُها لملك كان قبلك، ولستُ بمنتَهٍ حتى أصرف إليها حاجَّ العرب. فلما تحدثت العرب بكتاب أبرهة ذلك إلى النجاشيِّ، غضِب رجلٌ من النَّسَأةِ (١) أحد بني فُقَيمٍ، ثم أحدِ بني مالك، فخرَج حتى أتى القُلَّيسَ فقعد فيها (٢)، ثم خرج فلحق بأرضه، فأُخْبِر أبرهةُ بذلك، فقال: من صنعَ هذا؟ فقيل: صنعه رجل من أهل هذا البيت الذي تحُجُّ العرب إليه بمكةَ، لما سمع من قولك: أصرفُ إليه حاجَّ العربِ. فغضب، فجاء فقعَد فيها، أي: إنها ليست لذلك بأهل. فغضب عند ذلك أبرهةُ، وحلف ليسيرنَّ إلى البيتِ فيهدِمُه، وعندَ أبرهة رجالٌ من العرب قد قدموا عليه يلتمسون فضله؛ منهم محمدُ بنُ خُزَاعيِّ ابن حزابة الذَّكوانيُّ، ثم السُّلَميُّ، في نفر من قومه، معه أخٌ له يقال له: قيسُ بنُ خُزاعيٍّ. فبينما هم عندَه، غَشِيَهم عيدٌ لأبرهة، فبعث إليهم فيه بغذائه، وكان يأكلُ الخُصَى، فلما أتى القومَ بغذائه، قالوا: والله لئن أكلنا هذا لا تزال تسبُّنا به العرب ما بقِينا. فقام محمدُ بنُ خُزاعيٍّ، فجاء أبرهة فقال: أيها الملك، إن هذا يوم عيدٍ لنا، لا نأكل فيه إلا الجنوب والأيدى. فقال له أبرهةُ: فسنبعثُ إليكم ما أحبَبْتم، فإنما أكرمتكم بغذائى لمنزلتكم عندى.

ثم إن أبرهة توَّج محمد بن خُزَاعِيٍّ، وأمَّره على مضَرَ، وأمره أن يسير في الناسِ، يدعوهم إلى حجِّ القُلَّيْسِ؛ كنيسته التي بناها، فسار محمد بن خزاعيٍّ، حتى إذا نزل ببعض أرضِ بني كنانةَ - وقد بلغ أهلَ تِهامةَ أمرُه وما جاء له - بعَثوا إليه رجلًا من هُذَيلٍ يقال له: عُرُوةُ بنُ حياضٍ الملاصيُّ. فرماه بسهمٍ فقتله، وكان مع


(١) رجل ناسئ وقوم نسأة، وذلك أنهم كانوا يكرهون أن يتوالى ثلاثة أشهر حرم لا يغيرون فيها؛ لأن معاشهم كان من الغارة، فيحل لهم شهر المحرم، فذلك الإنساء. ينظر اللسان (ن س أ).
(٢) قال ابن هشام: يعنى أحدث فيها. سيرة ابن هشام ١/ ٤٥.