للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكمَ المنسوخِ، فلم يَجُزِ اجتماعُهما [فيما قد] (١) كان ظاهرُه العمومَ من الأمرِ والنَّهْيِ وباطنُه الخصوصَ، فهو من الناسخِ والمنسوخِ بمَعْزِلٍ. وإذ كان ذلك كذلك، وكان غيرَ مستحيلٍ أن يقالَ: لا إكراةَ لأحدٍ ممن أُخِذَتْ منه الجِزْيةُ في الدينِ. ولم يكنْ في الآيةِ دليلٌ على أن تأويلَها بخلافِ ذلك، وكان المسلمون جميعًا قد نَقلُوا عن نبيِّهم أنه أَكْرَه على الإسلامِ قومًا، فأبَى أن يَقْبَلَ منهم إلا الإسلامَ وحَكَم بِقَتْلِهِم إِن امتنعُوا منه، وذلك كعَبَدةِ الأوثانِ من مشرِكي العربِ، وكالمرتدِّ عن دينِه، دينِ الحقِّ، إلى الكفرِ، ومَن أَشبَههم، وأنه ترَك إكراهَ آخرِين على الإسلامِ بقَبُولِه الجِزْيةَ منه، وإقرارِه على دينِه الباطلِ، وذلك كأهلِ الكتابَيْن [والمجوسِ] (٢) ومَن أَشبَههم - كان بيِّنًا بذلك أن معنَى قولِه: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾. إنما هو: لا إكراهَ في الدينِ لأحدٍ من حَلَّ قبولُ الجِزْيةِ منه، بأدائِه الجِزيةَ، ورضاه بحكمِ الإسلامِ، وألا معنَى لقولِ مَن زعَم أن الآيةَ منسوخةُ الحكمِ بالإذنِ بالمحاربةِ.

فإن قال قائلٌ: فما أنت قائلٌ فيما رُوِى عن ابن عباسٍ وعمَّن رَوى عنه، من أنّها نزَلتْ في قومٍ من الأنصارِ أرادُوا أن يُكْرِهوا أولادَهم على الإسلامِ؟ قلْنا: ذلك غيرُ مدفوعةٍ صحتُه، ولكنَّ الآيةَ قد تَنزِلُ في خاصٍّ من الأمرِ، ثم يكونُ حُكْمُها عامًّا في كلِّ ما جانَس المعنَى الذي أُنزِلتُ فيه، فالذين أُنزِلتُ فيهم هذه الآيةُ، على ما ذكَر ابن عباسٍ وغيرُه، إنما كانوا قومًا دانُوا بدينِ أهلِ التوراةِ، قبلَ ثُبوتِ عَقْدِ أهلِ الإسلامِ لهم، فنَهَى اللَّهُ تعالى ذكرُه عن إكراهِهم على الإسلامِ، وأَنزَل بالنَّهْيِ عن ذلك آيةً يَعُمُّ حُكْمُها كلَّ مَن كان في مثلِ معناهم ممن كان على دينٍ من الأديانِ التي يجوزُ أخذُ الجِزْيةِ من أهلِها، وإقرارُهم عليها على النحوِ الذي قلْنا في ذلك.


(١) في ص، م، ت ١، ت ٢، ت ٣، س: "فأما ما".
(٢) سقط من: ص، م، ت ١، ت ٢، س.