والبنينَ، وسائرِ ما ذكَر ربُّنا جل ثناؤُه: ﴿أَؤُنَبِّئُكُمْ﴾: أَأُخْبِرُكم وأُعْلِمُكم، ﴿بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ﴾ يعنى: بخيرٍ وأفضلَ لكم، ﴿مِنْ ذَلِكُمْ﴾ يعني: مما زُيِّن لكم في الدنيا حُبُّ شهوتِه مِن النساءِ والبنينَ والقناطيرِ المقنطرةِ مِن الذهبِ والفضةِ، وأنواعِ الأموالِ، التي هي مَتاعُ الدنيا.
ثم اخْتَلَف أهلُ العربيةِ في المَوضعِ الذي تَناهَى إليه الاستفهامُ مِن هذا الكلامِ؛ فقال بعضُهم: تَناهَى ذلك عندَ قولِه: ﴿مِنْ ذَلِكُمْ﴾ ثم ابتدأ الخبرَ عما للذين اتَّقوا عند ربِّهم، فقيل: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ فلذلك رفعَ الجناتِ.
ومَن قال هذا القولَ لم يُجِزْ في قولَه: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾، إلا الرفعَ، وذلك أنه خبرٌ مبتدأٌ، غيرُ مَردودٍ على قولِه: ﴿بِخَيْرٍ﴾. فيكونُ الخفضُ فيه جائزًا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأً عندَهم، ففيه إبانةٌ عن معنى "الخير" الذي أمرَ اللَّهُ ﷿ نبيَّه ﷺ أن يَقولَ للناسِ: أَوُنَبِّئُكم به. و "الجنات" على هذا القولِ مرفوعةٌ باللامِ التي في قولِه: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾.
وقال آخَرون منهم بنحوٍ مِن هذا القولِ، إلا أنهم قالوا: إن جعَلْتَ اللامَ التي في قولِه: ﴿لِلَّذِينَ﴾ مِن صلةِ الإنباءِ، جاز في "الجنات" الخفضُ والرفعُ؛ الخفضُ على الردِّ على "الخير"، والرفعُ على أن يَكونَ قولُه: ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ خبرَ مبتدأ. على ما قد بيَّنَّاه قبلُ.
وقال آخَرون: بل مُنْتَهَى الاسْتفِهامِ قولُه: ﴿عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ ثم ابْتَدَأَ: ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾. وقالوا: تأويلُ الكلامِ: ﴿قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾. ثم كأنه قيل: ماذا لهم؟ أو ما ذاك؟ أو على أنه يقالُ: ماذا لهم؟ أو ما ذاك؟ فقال: هو ﴿جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ﴾ الآية.