للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَلَيْلٍ يقولُ المَرْءُ مِن ظُلُماتِه … سَواءٌ صَحِيحاتُ (١) العُيُونِ وعُورُها

لأن الصحيحَ لا يُبْصِرُ فيه إلا بَصَرًا ضعيفًا مِن ظُلْمتِه.

وأمَّا قولُه: ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. فإنه ظهَر به الكلامُ ظهورَ الاستفهامِ وهو خبرٌ؛ لأنه وقَع مَوْقِعَ "أيّ"، كما تقولُ: ما نُبالي أقُمْتَ أم قَعَدْتَ. وأنت مخبرٌ لا مستفهمٌ؛ لوقوعِ ذلك موقعَ "أَيّ"، وذلك أن معناه إذا قلتَ ذلك: ما نبالي أيُّ هذين كان منك. فكذلك ذلك في قولِه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾. لما كان معنى الكلامِ: سواءٌ عليهم أيُّ هذين كان منك إليهم. حسُن في موضعِه مع ﴿سَوَاءٌ﴾: أفعَلْتَ أَم لم تَفْعَلْ.

وقد كان بعضُ نحوِيِّي أهلِ البصرةِ يَزْعُمُ أن حرفَ الاستفهامِ إنما دخَل مع ﴿سَوَاءٌ﴾ وليس باستفهامٍ؛ لأن المُسْتَفهِمَ إذا اسْتَفْهَم غيرَه فقال: أزيدٌ عندَك أَمْ (٢) عمرٌو؟ مستثبِتٌ صاحبَه أيُّهما عندَه، فليس أحدُهما أحقَّ بالاستفهامِ مِن الآخرِ. فلما كان قولُه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ﴾. بمعنى التسويةِ، أشْبهَ ذلك الاستفهامَ، إذ أشْبَهه في التسويةِ. وقد بيَّنَّا الصوابَ في ذلك.

فتأويلُ الكلامِ إذن: معتدلٌ يا محمدُ على هؤلاء الذين جحَدوا نبوَّتَك مِن أحبارِ يهودِ المدينةِ بعدَ علمِهم بها، وكتَموا بيانَ أمرِك للناسِ بأنك رسولي إلى خلقي، وقد أخذتُ عليهم العهدَ والميثاقَ ألا يَكْتُموا ذلك، وأن يبيِّنوه للناسِ، ويُخْبِروهم أنهم يجِدون صفتَك في كتبِهم - أأَنْذَرتَهم أم لم تُنْذِرْهم فإنهم لا يؤمنون، ولا يَرْجِعون إلى الحقِّ، ولا يُصَدِّقون بك وبما جئتَهم به.


(١) في ديوان الأعشى: "بصيرات".
(٢) في ص: "أو".