للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

واختلَفت القرأةُ في قراءةِ ذلك؛ فقرَأته عامةُ قرأةِ الحجازِ وبعضُ البصريين: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ بتشديدِ القافِ (١)، بمعنى: وكَّدتم الأيمانَ وردَّدتموها.

[وقرَأه عامةُ] (٢) الكوفيين: (بِمَا عَقَدْتُمُ الأيمَانَ) بتخفيف القافِ (٣)، بمعنى: أوجَبتموها على أنفسِكم، وعزَمت عليها قلوبُكم.

وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءةُ من قرَأ بتخفيفِ القافِ، وذلك أن العربَ لا تكادُ تستعملُ "فعلت" في الكلامِ إلا فيما يكونُ فيه ترَددٌ مرةً بعدَ مرةٍ، مثلَ قولِهم: شدَّدتُ على فلانٍ في كذا. إذا كرَّر عليه الشِّدةَ مرةً بعد أُخرى، فإذا أرادوا الخبرَ عن فعلِ مرةٍ واحدةٍ، قيل: شدَدْتُ عليه. بالتخفيفِ. وقد أجمَع الجميعُ لا خلافَ بينَهم، أن اليمينَ التي تجبُ بالحنْثِ فيها الكفارةُ، تلزمُ بالحِنْثِ في حَلِفِ مرةٍ واحدةٍ وإن لم يكرِّرْها الحالفُ مرّاتٍ، وكان معلومًا بذلك أن الله مؤاخذٌ الحالفَ العاقدَ قلبَه على حَلِفِه، وإن لم يُكرِّرْه ولم يُردِّدُه. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكنْ لتشديدِ القافِ من ﴿عَقَّدْتُمُ﴾ وجهٌ مفهومٌ.

فتأويلُ الكلامِ إذن: لا يؤاخذُكم اللهُ أيها المؤمنون من أيمانِكم بما لَغَوْتُم فيه، ولكن يُؤاخذكم بما أوجبتُموه على أنفسِكم منها، وعَقَدَت عليه قلوبُكم.

وقد بيَّنَّا اليمينَ التي هي لغوٌ، والتي اللهُ مؤاخذٌ العبدَ بها، والتي فيها الحنْتُ، والتي لا حِنْثَ فيها، فيما مضى من كتابِنا هذا، فكرهنا إعادةَ ذلك في هذا الموضعِ (٤).

وأما قولُه: ﴿بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾ فإن هنّادًا حدَّثنا، قال: ثنا وكيعٌ، عن سفيانَ، عن ابن أبي نجيحٍ، عن مجاهدٍ: ﴿وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ﴾.


(١) وهى قراءة نافع، وحفص عن عاصم، وابن كثير وأبي عمرو. السبعة لابن مجاهد ص ٢٤٧.
(٢) في ص، ت ١، ت ٢، ت ٣، س: "وقرأه"، وفى م: "وقراء". والمثبت هو الصواب.
(٣) وهى قراءة أبى بكر عن عاصم، وحمزة والكسائي. السبعة لابن مجاهد ص ٢٤٧.
(٤) ينظر ما تقدم في ٤/ ١٤، وما بعدها.