للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يعنى بقوله: حرَّرتُكم: فَكَكْتُ رِقابَكم مِن ذلِّ الهِجاءِ ولُزُومِ العارِ.

وقيل: ﴿تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾. والمحرَّرُ ذو الرقبةِ؛ لأن العربَ كان مِن شأنِها إذا أسَرَت أسيرًا أن تَجْمَعَ يَدَيه إلى عنقِه بقِدٍّ (١) أو حبلٍ أو غيرِ ذلك، وإذا أطْلَقَتْه مِن الأسرِ أطْلَقَت يَدَيْه وحلَّتهما مما كانتا به مشدودَتَين إلى الرقبةِ. فجرَى الكلامُ عندَ إطلاقِهم الأسيرَ، بالخبرِ عن فكِّ يديه من رقبتِه، وهم يُريدون الخبرَ عن إطلاقِه من أسرِه، كما يُقالُ: قبَض فلانٌ يدَه عن فلانٍ. إذا أمسَك يدَه عن نَوالِه، و: بسَط فيه لسانَه. إذا قال فيه سوءًا. فيُضافُ الفعلُ إلى الجارحةِ التي يَكُونُ بها ذلك الفعلُ دونَ فاعلِه؛ لاستعمالِ الناسِ ذلك بينَهم، وعلمِهم بمعنى ذلك.

فكذلك ذلك في قولِ اللهِ تعالى ذكرُه: ﴿أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ﴾. أُضيف التحريرُ إلى الرقبةِ وإن لم يَكُنْ هنالك غُلٌّ في رقبتِه، ولا شَدُّ يَدٍ إليها، وكان المرادُ بالتحريرِ نفسَ العبدِ، بما وصَفنا من جَرَّا (٢) استعمالِ الناسِ ذلك بينهم، لمعرفتِهم بمعناه.

فإن قال قائلٌ: أفكلُّ الرقابِ معنيٌّ بذلك أو بعضُها؟

قيل: بل معنيٌّ بذلك كلُّ رقبةٍ كانت سليمةَ من الإقعادِ والعَمَى والخَرَسِ، وقطعِ اليدين أو شَلَلِهما، والجنونِ المطبِقِ، ونظائرِ ذلك، فإن مَن كان به ذلك أو شيءٌ منه من الرقابِ، فلا خلافَ بينَ الجميعِ مِن الحجةِ أنه لا يُجْزِئُ في كفَّارِةِ اليمينِ، فكان معلومًا بذلك أن الله تعالى ذكرُه لم يَعْنِه بالتحريرِ في هذه الآيةِ. فأما الصغيرُ والكبيرُ والمسلمُ والكافرُ، فإنهم مَعْنِيُّون به.

وبنحوِ الذي قلنا في ذلك قال جماعةٌ مِن أهلِ العلمِ.


(١) في م: "بقيد". والقد السير يُقَدُّ من الجلد لخصف النعال أو نحو ذلك. الوسيط (ق د د).
(٢) أي من جراء، بمعنى من أجل، وهما لغتان.