للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ضعفِها ما خُلِقَت لإدراكِه، وإن ضعُف إدراكُها إياه، ما لم تُعْدَمْ. قالوا: فلو كان في البصرِ أن يُدْرِكَ صانعَه في حالٍ مِن الأحوالِ، أو وقتٍ مِن الأوقاتِ ويَرَاه، وجَب أن يكونَ يُدْرِكُه في الدنيا ويَراه فيها، وإن ضعُف إدراكُه إياه. قالوا: فلما كان ذلك غيرَ موجودٍ مِن أبصارِنا في الدنيا، كان غيرُ جائزٍ أن تكونَ في الآخرةِ إلا بهيئتِها في الدنيا، في أنها لا تُدْرِكُ إلا ما كان مِن شأنِها إدراكُه في الدنيا. قالوا: فلما كان ذلك كذلك، وكان اللهُ تعالى ذكرُه قد أخْبَر أن وجوهًا في الآخرةِ تَراه، عُلِم أنها تَراه بغيرِ حاسَّةِ البصرِ، إذ كان غيرُ جائزٍ أن يَكونَ خبرُه إلا حقًّا.

والصوابُ مِن القولِ في ذلك عندَنا ما تَظاهَرَت به الأخبارُ عن رسولِ اللهِ أنه قال: "إنكم ستَرَوْن ربَّكم يومَ القيامةِ كما تَرَوْن القمرَ ليلةَ البدرِ، وكما تَرَوْن الشمسَ ليس دونَها سَحابٌ" (١). فالمؤمنون يَرَوْنه، والكافرون عنه يومَئذٍ مَحْجُوبون، كما قال جلَّ ثناؤُه: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥].

فأما ما اعتلَّ به منكرُو رؤيةِ اللهِ يومَ القيامةِ بالأبصارِ، لمَّا كانت لا تَرَى إلا ما بايَنها وكان بينَها وبينَه فضاءٌ وفرجةٌ، وكان ذلك عندَهم غيرَ جائزٍ أن تكونَ رؤيةُ اللهِ بالأبصارِ كذلك؛ لأن في ذلك إثباتَ حدٍّ له ونهايةٍ، فبطَل عندَهم لذلك جوازُ الرؤيةِ عليه، فإنَّه (٢) يقالُ لهم: هل علِمْتُم موصوفًا بالتدبيرِ، سوى صانعِكم، إلا مماسًّا لكم أو مُبايِنًا؟

فإن زعَموا أنهم يَعْلَمون ذلك، كُلِّفوا تبيينَه، ولا سبيلَ إلى ذلك.

وإن قالوا: لا نَعْلَمُ ذلك.


(١) تقدم تخريجه في ص ٤٦١.
(٢) في النسخ: "وإنه". والسياق يقتضي ما أثبتنا.