للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإنما قلنا: هذا القولُ أولى الأقوالِ في ذلك بالصوابِ؛ لأن الذي يتلُو ذلك قولُه: ﴿ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ﴾. ومعلومٌ أن الله قد أمَر الملائكةَ بالسجودِ لآدمَ قبلَ أن يصوِّرَ ذرِّيتَه في بطونِ أمهاتِهم، بل قبلَ أن يخلُقَ أمهاتِهم، و "ثم" في كلامِ العربِ لا تأتى إلا بإيذانِ انقطاعِ ما بعدَها عما قبلَها، وذلك كقولِ القائلِ: قمتُ ثم قعدتُ. لا يكونُ القعودُ إذا عُطِف به بـ "ثمَّ" على قولِه: قمتُ. إلا بعدَ القيامِ، وكذلك ذلك في جميعِ الكلامِ، ولو كان العطفُ في ذلك بالواوِ، جازَ أن يكونَ الذي بعدَها قد كان قبلَ الذي قبلَها، وذلك كقولِ القائلِ: قمتُ وقعدتُ. فجائزٌ أن يكونَ القعودُ في هذا الكلامِ قد كان قبلَ القيامِ؛ لأن الواوَ تدخُلُ في الكلامِ إذا كانت عطفًا لتُوجِبَ للذى بعدَها مِن المعنى ما وَجَبَ للذي قبلَها، مِن غيرِ دلالةٍ منها بنفسِها على أن ذلك كان في وقتٍ واحدٍ أو وقتَين مختلَفين، أو إن كانا في وقتَين، أيُّهما المتقدِّمُ وأيُّهما المتأخرُ. فلما وصفْنا قلنا: إن قولَه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ﴾. لا يصحُّ تأويلُه إلا على ما ذكرْناه.

فإن ظنَّ ظانٌّ أن العربَ إذ كانت ربَّما نَطَقَت بـ "ثمَّ" في موضعِ الواوِ في ضرورة شعرٍ، كما قال بعضُهم (١):

سألتُ ربيعةً مَن خيرُها … أبًا ثم أُمًّا فقالت لِمَهْ

بمعنى: أبًا وأمًّا. فإن ذلك جائزُ أن يكونَ نظيرَه - فإن ذلك بخلافِ ما ظنَّ؛ وذلك أن كتابَ اللهِ جلّ ثناؤُه نَزَلَ بأفصحِ لغاتِ العربِ، وغيرُ جائزٍ توجيهُ شيءٍ منه إلى الشاذِّ من لغاتِها، وله في الأفصحِ الأشهرِ معنًى مفهومٌ ووجهٌ معروفٌ.

وقد وجَّه بعضُ مَن ضَعُفَت معرفتُه بكلامِ العربِ مَعْنى (٢) ذلك إلى أنه مِن


(١) التبيان ٤/ ٣٥٧.
(٢) سقط من: ص، م، ت ١، ت ٢، ت ٣، س، ف.