للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذا الذي قاله ابن جُريجٍ، وإن كان قولًا له وجهٌ، فإن ظاهرَ كتابِ اللَّهِ مع تأويلِ أكثرِ أهلِ التأويلِ بخلافِه؛ وذلك أن اللَّهَ جلَّ ثناؤه عمَّ بالخبرِ عمَّنِ اتَّخذَ العجلَ أنه سينالُه غضبٌ مِن ربِّه وذِلَّةٌ في الحياةِ الدنيا، وتظاهرت الأخبارُ عن أهلِ التأويلِ مِن الصحابةِ والتابعين بأن اللَّهَ - إذ رجَع إلى بنى إسرائيلَ موسى - تاب على عَبَدةِ العجلِ مِن فعلِهم، بما أخبَر به عن قيل موسى لهم في كتابِه، وذلك قولُه: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤]. ففعَلوا ما أمَرهم به نبيُّهم ، فكان أمرُ اللَّهِ إيَّاهم بما أمرَهم به مِن قتلِ بعضِهم أنفسَ بعضٍ، عن غضبٍ منه عليهم لعبادتِهم (١) العجلَ، فكان قتلُ بعضِهم بعضًا هَوانًا لهم، وذلةً أَذلَّهم اللَّهُ بها في الحياةِ الدنيا، وتوبةً منهم إلى اللَّهِ قَبِلها، وليس لأحدٍ أن يجعلَ خبرًا جاء الكتابُ بعمومِه في خاصٍّ مما عمَّه الظاهرُ بغيرِ بُرهانٍ مِن حُجَّةِ خبرٍ أو عقلٍ، ولا نعلمُ خبرًا جاء يوجِبُ نقلَ ظاهرِ قولِه: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ﴾. إلى باطِنٍ خاصٍّ، ولا مِن العقلِ عليه دليل، فيجبَ إحالةُ ظاهرِه إلى باطِنِه.

ويعنى بقولِه ﴿وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ﴾: وكما جزَيتُ هؤلاءِ الذين اتخَذُوا العجلَ إلهًا مِن إحلالِ الغضبِ بهم، والإذلالِ في الحياةِ على كفرِهم بربِّهم ورِدَّتهم عن دينِهم بعدَ إيمانِهم باللَّهِ - كذلك نجزِى كلَّ مَن افترَى على اللَّهِ فكذَب عليه، وأقرَّ بأُلُوهةِ غيرِه، وعبَد شيئًا سواه مِن الأوثانِ بعدَ إقرارِه بوحدانيةِ اللَّهِ، وبعدَ إيمانِه به وبأنبيائِه ورُسُلِه، وقيل (٢): ذلك إذا لم يَتُبْ مِن كفرِه


(١) في م، س: "بعبادتهم".
(٢) في الأصل: "قبل".