للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عليه مِن كتابٍ ولا سنةٍ ولا فِطْرةِ عقلٍ.

وقد دلَّلْنا في غيرِ موضعٍ مِن كتابِنا هذا وغيرِه، على أن الناسخَ لا يكونُ إلا ما نفَى حكمَ المنسوخِ مِن كلِّ وجهٍ، فأما ما كان بخلافِ ذلك فغيرُ كائنٍ ناسخًا.

وقولُ اللَّهِ في "براءةَ": ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾. غيرُ نافٍ حكمُه حكمَ قولِه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾؛ لأن قولَه: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾. إنما عُنِى به بنو قريظةَ، وكانوا يهودًا أهلَ كتابٍ، وقد أذِن اللَّهُ جَلَّ ثناؤُه للمؤمنين بصلحِ أهلِ الكتابِ، ومُتارَكتِهم الحربَ، على أخْذِ الجزيةِ منهم.

وأما قولُه: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾. فإنما عُنِى به مشركو العربِ مِن عَبَدة الأوثانِ الذين لا يَجوزُ قبولُ الجزيةِ منهم، فليس في إحدى الآيتين نفيُ حكمِ الأخرى، بل كلُّ واحدةٍ منهما مُحْكَمةٌ فيما أُنْزِلَت فيه.

حدَّثني محمدُ بنُ عمرٍو، قال: ثنا أبو عاصمٍ، قال: ثنا عيسى، عن ابن أبي نَجيحٍ، عن مجاهدٍ: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾. قال: قريظةُ (١).

وأما قولُه: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾. يقولُ: فوِّضْ إلى اللَّهِ يا محمدُ أمرَك، واسْتَكْفِه واثقًا به أنه يَكْفِيك.

كالذي حدَّثنا ابن حميدٍ، قال: ثنا سلمةُ، عن ابن إسحاقَ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾: إن الله كافيك (٢).

وقولُه: ﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾. يعنى بذلك: إن اللَّهَ الذي تَتَوَكَّلُ عليه


(١) تفسير مجاهد ص ٣٥٧، ومن طريقه ابن أبي حاتم في تفسيره ٥/ ١٧٢٥، وعزاه السيوطي في الدر المنثور ٣/ ١٩٨ إلى ابن المنذر.
(٢) سيرة ابن هشام ١/ ٦٧٤.