للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٦، ٢٧]. إلى آخرِ القصةِ، فلما شكا ذلك منهم نوحٌ إلى اللَّهِ، واسْتَنْصَره عليهم، أوحَى اللَّهُ إليه أن: ﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾. أي: بعدَ اليوم؛ ﴿إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾. فأقبَل نوحٌ على عملِ الفلكِ، ولَهِيَ (١) عن قومِه، وجَعَل يقطَعُ الخشبَ، ويضرِبُ الحديدَ، ويُهَيِّئُ عُدَّةَ الفلكِ مِن القارِ وغيرِه مما لا يُصلِحُه إلا هو، وجعَل قومُه يمرُّون به، وهو في ذلك مِن عملِه، فيَسْخَرون منه، ويَسْتَهزئون به، فيقولُ: ﴿إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (٣٩)﴾. قال: ويقولون له فيما بلغني: يا نوحُ، قد صِرْتَ نَجَّارًا بعدَ النبوةِ؟! قال: وأعقمَ اللَّهُ أرحامَ النساءِ، فلا يولدُ لهم ولدٌ.

قال: ويزعمُ أهلُ التوراةِ أن اللَّهَ أمره أن يصنعَ الفلكَ مِن خشبِ السَّاجِ، وأن يصنعَه أَزْوَرَ (٢)، وأن يَطْلِيَه بالقارِ مِن داخلِه وخارجِه، وأن يجعلَ طولَه ثمانين ذراعًا، وأن يجعلَه ثلاثةَ أطباقٍ؛ سُفْلًا، ووَسَطًا، وعُلْوًا، وأن يجعلَ فيه كِوًى، ففعَل نوحٌ كما أمره اللَّهُ، حتى إذا فرَغ منه، وقد عَهِد اللَّهُ إليه: إذا جاء أمرُنا وفار التَّنُّورُ، فـ ﴿احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾، وقد جعَل التَّنُّورَ آيةً فيما بينَه وبينَه، فقال: ﴿فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ﴾ [المؤمنون: ٢٧]. واركبْ. فلما فارَ التنُّورُ، حَمَل نوحٌ في الفلكِ مَن أمَره اللَّهُ - وكانوا قليلًا كما قال اللَّهُ - وحَمَل (٣) فيها مِن كلٍّ زوجين اثنين، مما فيه الروحُ والشجرُ، ذكرٍ (٤) وأنثى،


(١) لَهِيتُ عن الشيء، بالكسر، ألهَى، بالفتح، لُهِيًّا: إذا سلوت عنه وتركتَ ذكره، وإذا غفلتَ عنه واشتغلتَ. النهاية ٤/ ٢٨٢.
(٢) الأزور: المائل. يقال: عنق أزور، أي مائل. التاج (ز و ر).
(٣) في ت ٢، س: "احمل".
(٤) في م: "ذكرًا".