للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مِن قولِهم: ولَّانى فلانٌ دُبُرَه. إذا اسْتَدْبَر عنه وخلَّفه خلفَ ظهرِه، ثم يُسْتَعْمَلُ ذلك في كلِّ تاركٍ طاعةَ أَمْرٍ، [وهاجرِ خِلٍّ] (١)، ومُعْرِضٍ بوجهٍ (٢)، فيقالُ: فلانٌ قد تَوَلَّى عن طاعةِ فلانٍ، وتوَلَّى عن مُواصلتِه. ومنه قولُ اللهِ تعالى ذكرُه: ﴿فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [التوبة: ٧٦]. يعنى بذلك: خالَفوا ما كانوا وعَدوا اللهَ مِن قولِهم: ﴿لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [التوبة: ٧٥]. ونبَذوا ذلك وراءَ ظُهورِهم.

ومِن شأنِ العربِ استعارةُ الكلمةِ ووضعُها مكانَ نَظيرتِها، كما قال أبو ذُؤَيْبٍ (٣) الهُذَلىُّ:

فليس كعَهْدِ (٤) الدارِ يا أمَّ مالكٍ … ولكن أحاطَتْ بالرِّقابِ السَّلاسِلُ

وعاد الفتى كالكَهْلِ ليس بقائِلٍ … سوى العَدْلِ (٥) شيئًا واسْتَراح العَواذِلُ

يعنى بقولِه: أحاطَت بالرِّقابِ السَّلاسلُ. أن الإسلام صار في منعِه إيانا ما كنا نَأْتِيه في الجاهليةِ مما حرَّمه اللهُ علينا في الإسلامِ، بمنزلةِ السَّلاسلِ المُحيطةِ برِقابِنا التى تَحُولُ بينَ مَن كانت في رقبتِه، مع الغُلِّ الذى في يدِه، وبينَ ما حاول أن يَتَناوَلَه.

ونَظائرُ ذلك في كلامِ العربِ أكثرُ مِن أن تُحْصَى. فكذلك قولُه: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾. يعنى بذلك أنكم ترَكْتُم العملَ بما أخَذْنا ميثاقَكم وعهودَكم على العملِ به بجدٍّ واجْتهادٍ، بعدَ إعطائِكم ربَّكم المَواثيقَ على العملِ به، والقيامِ بما


(١) في م: "بها ﷿".
(٢) في م: "بوجهه".
(٣) كذا في النسخ، وكذا قال ابن قتيبة في تأويل مشكل القرآن ص ١١٢، والبيتان من قصيدة لأبى خراش
الهذلى يرثى بها زهير ابن العجوة. ديوان الهذليين ٢/ ١٥٠.
(٤) في م، ت ١، ت ٢، ت ٣: "لعهد".
(٥) في الأصل: "العذل"، وفى م: "الحق". وينظر شرح أشعار الهذليين ٣/ ١٢٢٣.