للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أهلُ الكتابِ يُخافِتون، ثم يَجهَرُ أحدُهم بالحرفِ فيَصيحُ به، ويَصيحُون هم به وراءَه، فنهاه أن يَصيحَ كما يَصيحُ هؤلاء، وأن يُخافِتَ كما يُخافتُ القومُ، ثم كان السبيلُ الذي بينَ ذلك، الذي سنَّ له جبريلُ من الصلاةِ (١).

وأولى الأقوالِ في ذلك بالصِّحة ما ذكَرنا عن ابن عباسٍ في الخبرِ الذي رَواه أبو بشرٍ (٢)، عن سعيدٍ، عن ابن عباسٍ؛ لأنَّ ذلك أصحُّ الأسانيدِ التي رُوِى عن صحابيٍّ فيه قولٌ مخرَّجًا، وأشبهُ الأقوالِ بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيلِ، وذلك أنَّ قولَه: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾، عَقِيبَ قولِه: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾. وعَقيبَ تَقْريعِ الكفارِ بكُفرِهم بالقرآنِ، وذلك بُعْدُهم منه ومن الإيمانِ. فإذا كان ذلك كذلك، فالذى هو أولى وأشبهُ بقولِه: ﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾. أن يكونَ من سببِ ما هو في سياقِه من الكلامِ، ما لم يأْتِ بمعنًى يُوجِبُ صرفَه عنه، أو يكونَ على انصرافِه عنه دليل يُعلَمُ به الانصرافُ عمَّا هو في سياقِه.

فإذا كان ذلك كذلك، فتأويلُ الكلامِ: قلِ ادعُوا الله أو ادعوا الرحمنَ، أيًّا ما تدعوا فله الأسماءُ الحُسنى، ولا تَجهَرْ يا محمدُ بقراءتِك في صلاتِك ودعائِك فيها ربَّك، ومسألتِك إيَّاه، وذكرِك فيها، فيؤذِيَكَ بجهرِك بذلك المشركون، ولا تُخافِتْ بها فلا تُسمِعَها أصحابُك، ﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا﴾. ولكن التمسْ بينَ الجهرِ والمخافتةِ طريقًا إلى أن تُسمِعَ أصحابَك، ولا تُسمِعَه المشركون فيؤذُوك.

ولولا أن أقوالَ أهلِ التأويلِ مضَتْ بما ذكَرتُ عنهم من التأويلِ - وإنا لا


(١) ذكره ابن كثير في تفسيره ٥/ ١٢٨.
(٢) في م، ت ٢، ف: "جعفر". وأبو بشر هو جعفر بن إياس.