للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أَخبَر عنه، ولكنه خبرٌ منه عن قلوبهم القاسيةِ أنها -عند عبادِه الذين هم أصحابُها الذين كذَّبوا بالحقِّ بعد ما رأوُا العظيمَ مِن آياتِ اللهِ- كالحجارةِ قسوةً أو أشدُّ مِن الحجارةِ عندهم وعند مَن عرَف شأنَهم، وقد قال في ذلك جماعةٌ من أهلِ العربيةِ أقوالًا؛ فقال بعضُهم: إنما أراد اللهُ جلَّ ثناؤه بقولِه: ﴿فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾. وما أشبهَ ذلك من الأخبارِ التى تأتى بـ "أو" كقولِه: ﴿وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ﴾ [الصافات: ١٤٧]. وكقولِ اللهِ جلَّ ذكرُه: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [سبأ: ٢٤]. فهو عالمٌ أىُّ ذلك كان. قالوا: ونظيرُ ذلك قولُ القائلِ: أكلتُ بُسْرَةً أوْ رُطَبَةً. وهو عالمٌ أىَّ ذلك أكَل، ولكنَّه أبْهَم على المخاطَبِ، كما قال أبو الأسودِ الدِّيلىُّ (١):

أُحِبُّ مُحَمّدَا حُبًّا شَدِيدًا … وعَبَّاسًا وحَمْزَةَ وَالوَصِيّا

فإنْ يَكُ حُبُّهُمْ رَشَدًا أُصِبْه … وَلَسْتُ بِمُخْطئٍ إنْ كانَ غَيّا

قالوا: ولا شكَّ أن أبا الأسودِ لم يكن شاكًّا في أن حُبَّ مَن سمَّى رَشَدٌ، ولكنه أَبْهَم على مَن خاطَبه به. وقد ذُكِرَ عن أبي الأسودِ أنه لما قال هذه الأبياتَ قيل له: شكَكتَ؟ فقال: كلَّا واللهِ. ثم انتزَع (٢) بقولِ اللهِ ﷿: ﴿وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾. فقال: أوَ كان شاكًّا مَن أخبَر بهذا في الهادى من الضلالِ؟!

وقال بعضُهم: ذلك كقولِ القائلِ: ما أطعمتُك إلَّا حُلْوًا أوْ حامضًا. وقد أطعَمه النوعين جميعًا. فقالوا: فقائلُ ذلك لم يكنْ شاكًّا أنه قد أطعَم صاحبَه الحُلْوَ والحامضَ كليهما، ولكنه أراد الخبرَ عمَّا أطعَمه إيَّاه أنه لم يَخرُجْ عن هذين النوعين.


(١) ديوانه (نفائس المخطوطات) ص ٣٢، ٣٣.
(٢) انتزع: تمثل. التاج. (ن ز ع).