للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والذي هو أولى بتأويلِ ذلك من القول قولُ مَن قال: معناه: أكادُ أُخْفِيها مِن نَفْسِي. لأن تأويلَ أهلِ التأويلِ بذلك جاء.

والذي ذُكِر عن سعيدِ بن جبيرٍ من قراءةِ ذلك بفَتْحِ الألفِ قراءةٌ لا أسْتَجيزُ القراءةَ بها؛ لخِلافِها قراءةَ الحُجَّةِ التي لا يجوزُ خِلافُها فيما جاءتْ به نقلًا مُسْتفيضًا.

فإن قال قائلٌ: ولِمَ وجَّهتَ تأويلَ قولِه: ﴿أُخْفِيهَا﴾ له بضمِّ الألفِ إلى معنى: أكادُ أُخْفيها من نَفْسِى. دونَ تَوْجِيهه إلى معنَى: أكادُ أُظْهِرُها. وقد عَلِمتَ أن للإخفاءِ في كلامِ العربِ وجْهَين؛ أحدُهما الإظهارُ، والآخرُ الكِتْمانُ، وأن الإظهارَ في هذا الموضِعِ أشْبَهُ بمعنى الكلامِ؛ إذ كان الإخفاءُ مِن نَفْسِه يكادُ عندَ السامعين أن يسْتَحيلَ معناه، إذ كان مُحالًا أن يُخفِيَ أحدٌ عن نَفْسِه شيئًا هو به عالمٌ، واللهُ تعالى ذكْرُه لا تَخْفَى عليه خافيةٌ؟

قيل: إن الأمرَ في ذلك بخلافِ ما ظَنَنتَ، وإنَّما وجَّهْنا معنى: ﴿أُخْفِيهَا﴾ بضمِّ الألفِ إلى معنى: أَسْتُرُها مِن نَفْسِي. لأنَّ المعروفَ مِن معنَى الإخفاءِ في كلامِ العربِ، السَّترُ، يقالُ: قد أَخْفَيتُ الشيءَ. إذا سَتَرْتَه. وأنَّ الذين وجَّهوا معناه إلى الإظهارِ إنما اعْتَمَدوا على بيتٍ لامرئِ القيسِ بن عابسٍ الكِنْدِيِّ.

حُدِّثتُ عن معمرِ بن المثنى أنَّه قال: أنْشَدَنيه أبو الخَطَّابِ، عن أهْلِه في بلَدِه:

فإن تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُخْفِهِ … وإِنْ تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ (١)

بضمِّ النونِ من: لا نُخْفِه. ومعناه: لا نُظْهِرْه. فكان اعتمادُهم في تَوْجِيه


(١) البيت في مجاز القرآن ٢/ ١٦، ١٧، واللسان وتاج العروس (خ ف ى) منسوب لامرئ القيس بن عابس. وهو في ديوان امرئ القيس بن حجر ص ١٨٦. وامرؤ القيس بن عابس صحابي. ينظر أسد الغابة ١/ ١٣٧.