للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من الأُخرَى، وإن دِماغى ليسيلُ من فَمِي، تساقَط [شعَرُ عيني] (١) فكأنَّما حُرِّق بالنارِ وَجْهى، وحدَقتاى هما مُتدلِّيتان على خَدِّى، ورمَ لساني حتى [ملأ في] (٢)، فما أُدْخِلُ فيه طعامًا إلا غصَّنى، ورِمتْ شفتاى حتى غطَّت العليا أَنْفى، والسُّفْلى ذَقَنِي، تقطَّعت أمعائى في بَطنى، فإني لأُدخِلُ الطعامَ فيخرُجُ كما دخَل، ما أُحِسُّه ولا ينفَعُنى، ذهَبَتْ قوَّةُ رِجلَيَّ فكأنهما قِربَتا ماءٍ مُلئَتا لا أُطيقُ حَمَلَهما، أحمِلُ لحِافي بيديَّ وأسناني، فما أُطيقُ حمْلَه حتى يحمِلَه معى غيرِى، ذهَب المالُ فصِرتُ أسألُ بكفِّي، فيُطعِمُنى من كنتُ أَعولُه اللقمةَ الواحدةَ، فيمُنُّها عليَّ، ويعيِّرُني هُلْكَ بَنيَّ وبناتي، ولو بقِى منهم أحدٌ أعانَني على بلائى ونفعني (٣)، وليس العذابُ بعذابِ الدُّنيا، إنه يزُولُ عن أهلِها ويموتُونَ عنه، ولكن طُوبَى لمن (٤) كانت له راحةٌ في الدارِ التي لا يموتُ أهلُها، ولا يتحوَّلون عن منازلِهم، السعيدُ من سعدِ هنالِك، والشقيُّ من شَقِى فيها.

قال بِلْدَدُ: كيف يقومُ لسانُك بهذا القولِ، وكيف تُفصِحُ به؟ أتقولُ: إن العدْلَ يجورُ؟ أم تقولُ: إن القويَّ يضعُفُ؟ ابْكِ على خطيئتِكَ، وتضرَّعْ إلى رَبِّك، عسَى أن يرحَمَك ويتَجاوزَ عن ذَنْبِك، وعسى إن كنتَ بريئًا أن يجعَلَ هذا لك ذُخْرًا في آخرَتِك، وإن كان قلبُك قد قسَا فإن قولَنا لن ينفَعَك، ولَن (٥) يأخذَ فيك، هيهاتَ أن تنبُتَ الآجامُ في المفاوِزِ، وهيهاتَ أن ينبُتَ البَرْدِيُّ في الفَلَاةِ، مَن توكَّلَ على الضعيفِ كيف يَرْجُو أن يمنَعَه، ومَن جحَد الحقَّ كيف يَرْجُو أَن يُوَفَّى حقَّه؟


(١) في م: "شعرى عني".
(٢) في م: "ملأ فمى"، وفى ت ١، ت ٢، ف: "مِنكفى".
(٣) في ص، ت ١، ت ٢، ف: "عنفني".
(٤) في ص، ت ١، ف: "من".
(٥) في ص، ت ١، ت ٢، ف: "لكن".