للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأمكنْتُهم من عُنُقى، وجعَلتنى للبلاءِ غَرَضًا، وجعَلتنى للفتنةِ نُصُبًا، لم تُنْفِسْنى مع ذلك، ولكن أتبَعَنى (١) ببلاءٍ على إثرِ بلاءٍ، ألم أكُنْ للغريبِ دارًا، وللمسكينِ قرارًا، ولليتيمِ وليًّا، وللأرملةِ قَيِّمًا؟ ما رأيتُ غريبًا إلا كنتُ له دارًا مكانَ دارِه، وقرارًا مكانَ قرارِه، ولا رأيتُ مسكينًا إلا كنتُ له مالًا مكانَ مالِه، وأهلًا مكان أهلِه، وما رأيتُ يتيمًا إلا كنتُ له أَبا مكانَ أَبِيه، وما رأيتُ أَيِّمًا إلا كنتُ لها قَيِّمًا ترضَى قِيامَه، وأنا عبدٌ ذليلٌ، إن أحسَنتُ لم يكُنْ لى كلامٌ بإحسانٍ؛ لأن المَنَّ لرَبِّي وليسَ لي، وإن أَسَأْتُ فبيدِه عُقوبَتي، وقد وقَع عليَّ بلاءٌ لو سلَّطتَه على جبَلٍ ضعُف عن جملِه. فكيف يحمِلُه ضَعْفِي؟

قال أليفزُ: أَتَحاجُّ الله يا أيوبُ في أمْرِه؟ أم تريدُ أن تُناصِفَه وأنت خاطِئُ؟ أو تُبَرِّئَها وأنت (٢) غيرُ برئٍ؟ خلَق السماواتِ والأرضَ بالحقِّ، وأحصَى ما فيهما من الخلْقِ، فكيف لا يعلَمُ ما أَسْرَرْتَ؟ وكيف لا يعلَمُ ما عمِلتَ فيجزيَك به؟ وضَع اللهُ ملائكتَه صفوفًا حولَ عرْشِه وعلى أرجاءِ سماواتِه، ثم احتَجَب بالنورِ، فأبصارُهم عنه كليلةٌ، وقوَّتُهم عنه ضَعيفةٌ، وعزُّهم (٣) عنه ذليلٌ، وأنتَ تزعُمُ أن لو خاصَمَك، وأدْلى إلى الحكْمِ معك! وهل تراه فتُناصِفَه؟ أم هل تسمَعُه فتحاوِرَه؟ قد عرَفنا فيك قضاءَه، إنه مَن أرادَ أن يرتفِعَ وضَعه، ومَن اتَّضَعَ له رفَعه.

قال أيوبُ: إن أهلَكني فمن ذا الذي يعرضُ له في عبده ويسألُه عن أمرِه؟ لا يرُدُّ غضبَه شيءٌ إلا رحمتُه، ولا ينفَعُ عبدَه إلا التضرُّعُ له، رَبِّ أقبِلْ عليَّ برحمتِك، وأَعلِمْنى ما ذَنْبى الذي أذنبتُ؟ أو لأيِّ شيءٍ صرَفتَ وَجْهَكَ الكريمَ عنى، وجَعَلْتني


(١) في ص: "أتعبتنى"، وفى ت ١، ف: "ألعبتنى".
(٢) بعده في ص، ت ١، ت، ٢، ف: "ذوى".
(٣) في م: "عزيزهم"، وفى ت ١، ت ٢، ف: "عزرهم".